غايتنا بلوغ الحكمة و الوصول الى المعرفة الحقيقية

الأربعاء، 17 فبراير 2016

أصالة الوجود و اعتبارية الماهية



                       ـ مختصر تاريخ مسألة أصالة الوجود:
لم تُطرح هذه المسألة في الفلسفة اليونانية، ولكن اشتهر بين دارسي الفلسفة أن القول بأصالة الوجود منسوب إلى المشائين والقول بأصالة الماهية منسوب إلى الإشراقيين، والحال أن القول بأصالة الوجود لم يُضَعْ بشكل نظري وبصورة تامة إلا في مدرسة الحكمة المتعالية، على يد صدر المتألهين الشيرازي، لأننا إذا راجعنا التراث الفلسفي اليوناني فلا نجد لهذه المسألة ذكراً، كذلك عندما نراجع تراث الفارابي المتوفى سنة (339هـ ) لا نجد عنواناً لهذه المسألة، كذلك لو رجعنا إلى تراث ابن سينا المتوفى سنة (428هـ ) لا نجد في تراثه عنواناً لأصالة الوجود، كذلك لا نجد عنواناً في تراث الخواجه نصير الدين الطوسي المتوفى سنة (672هـ )، كما لا نجدها معنونة في تراث شيخ الإشراق السهروردي ولا في تراث غيره، وإنما أول ما طُرحت هذه المسألة بهذا العنوان عند السيد محمد باقر الميرداماد المتوفى سنة (1040هـ ) من مدرسة إصفهان الفلسفية، وهو أستاذ صدر المتألهين الشيرازي، والميرداماد كان يتبنى القول بأصالة الماهية، واقتفى أثره ابتداءً تلميذه صدر المتألهين ثم بعد ذلك رفض صدر المتألهين القول بأصالة الماهية وأشاد أركان نظرية أصالة الوجود التي أضحت محوراً أساسياً لإبداعاته الفلسفية وإبداعات مدرسته مدرسة الحكمة المتعالية.
2
ـ ما هي مصادر إلهام القول بنظرية أصالة الوجود؟
المصدر الأول:تراث المتكلمين، فالمتكلمون يهتمون بنوعين من البحوث، قسم يرتبط بالمسائل العقائدية، وهو البحث الأساسي عند المتكلمين، وقسم آخر يُمثل مقدمة لمباحثهم، ويرتبط بالمسائل الفلسفية، وقد حصل تمازج واضح بين الفلسفة والكلام عند المتكلمين المتأخرين، وخصوصاً منذ الخواجه نصير الدين الطوسي المتوفى سنة (672هـ ) حتى الآن.
لقد طُرحت مسألة زيادة الوجود على الماهية أولاً لدى المتكلمين، ثم دخلت هذه المسألة الفلسفة بسبب إشكالاتهم، وهذه المسألة كانت أحد المنابع التي سببت القول بأصالة الوجود.
المصدر الثاني: تراث العرفاء، فهم يهتمون ببحث مسألة الوحدة، وحدة الوجود، أو وحدة الشهود، أو وحدة الحقيقة.
فقد طُرِحت وحدة الوجود وبُحِثت للمرة الأولى وتمت صياغة أصولها النظرية بشكل تام في تراث الشيخ (محي الدين بن عربي)، ثم أضحت هذه المسألة محوراً لأفكار (جلال الدين الرومي) في كتابه الشهير (المثنوي)، وبعد ذلك من خلال تراث العرفاء عبرت هذه المسألة إلى البحث الفلسفي عند صدر المتألهين.
3
ـ ما هي ثمرة القول بأصالة الوجود؟
يقول العلامة الطباطبائي: افتتح صدر المتألهين فلسفته مع أصالة الوجود، ثم التشكيك في الوجود، واستطاع أن يؤسس مدرسته الفلسفية على أساس هاتين المسألتين.
ويقول الشهيد المطهري في تعليقاته على أصول الفلسفة لأستاذه العلامة الطباطبائي: إن القول بأصالة الوجود تترتب عليه نتائج كثيرة في الفلسفة، بل قد لا نجد مسألة فلسفية إلا ويرتبط مصيرها بذلك.
إذاً هذه المسألة محور أساسي في مدرسة الحكمة المتعالية. وبتعبير الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي: إن مسألة أصالة الوجود، مسألة جارَّة وأساسية، ولا ينبغي إطلاقاً أي تساهل في تناولها، لأن مسائل العِلِّية وعلاقة المعلول بالعلة ونتيجة ذلك ترتبط بأصالة الوجود، وعلى أساس ذلك تُحل كثير من المسائل المهمة، كنفي الجبر والتفويض، وإثبات التوحيد الأفعالي، وغير ذلك، كما أن مسألة الحركة الجوهرية تستند إلى أصالة الوجود.
4
ـ ما هو المقصود بأصالة الوجود؟
لابدّ أن نعرف ثلاثة مصطلحات، وهي: الوجود، الماهية، الأصالة والاعتبار.
أما الوجود: فيُطلق ويراد به أحد ثلاثة معاني: إما المعنى الحرفي الرابط بالقضايا الدال عليه كلمة (است) بالفارسية، أو (is) بالانجليزية، أو الهيئة التركيبية في الجملة العربية، أي المعنى الحرفي، وهذا ليس هو المقصود.
أو أن المقصود بالوجود في أصالة الوجود، مفهوم الوجود ـ الذي هو بديهي التصور ـ وليس هذا هو المقصود.
أو أن المقصود نفس الحقيقة العينية الخارجية، التي تترتب عليها الآثار ويحكي عنها مفهوم الوجود، حكاية كل مفهوم عن مصداقه، وهذا هو المراد بالوجود في قولنا أصالة الوجود.
فالمراد بأصالة الوجود، هو أصالة الحقيقة العينية، وهي الخارجية التي تترتب عليها الآثار، وليس المراد بأصالة الوجود أصالة مفهوم الوجود، ولا المراد أصالة المعنى الحرفي للوجود.
ما معنى الماهية: فهي تأتي بمعنيين:
الأول: هو مصدر جعلي مأخوذ من (ما هو) وهو ما يناله العقل من الموجودات الممكنة عند تصورها تصوراً تاماً، أو هي قالب كلي ذهني للموجودات العينية، وهذه هي الماهية بالمعنى الأخص، وهي إنما تكون للموجودات القابلة للكنه، أما غير القابلة لذلك كالوجود فإنه لا ماهية له، والعدم أيضاً لا حدود له.
الثاني: هو المعنى الأعم للماهية أي ما به الشيء هو هو، أي ما يتحقق به الشيء، وهذا النوع من الماهية يشمل الموجود المحدود وغير المحدود.
والمقصود في هذا البحث هو المعنى الأول، أي الماهية بالمعنى الأخص.
أما معنى الأصالة والاعتبار، فإن الأصيل: هو الأمر الواقعي الحقيقي الخارجي، الذي تترتب عليه الآثار الخارجية أولاً وبالذات، وفي قبال الأصيل، الاعتباري، فالاعتبار يقابل الأصالة وهو ما لا تترتب عليه الآثار الخارجية أولاً وبالذات.
أما محل النزاع فهو: من الذي يملأ الواقع الخارجي، وتترتب عليه الآثار الخارجية، أهو الوجود أم الماهية؟
هذا منشأ النزاع في المسألة، فأما الذي يملأ الواقع الخارجي ويكون هو الحقيقة العينية فهو الوجود، عندها يكون هو الأصيل، هذا معنى أصالة الوجود، وإذا كانت هي الماهية فإن الأصالة للماهية.
ولكن ما الذي يذهب إليه العقل؟ الجواب: هناك أربعة فرضيات، وهي:
1
ـ يكون كلا الأمرين (الوجود والماهية) اعتباريين، أي لا توجد حقيقة تملأ الواقع الخارجي وتكون منشأً لترتب الآثار الخارجية.
2
ـ كلاهما أصيل، أي كلاهما يملأ الواقع وتترتب عليه الآثار، فيصبح كل شيء حقيقته مزدوجة من ماهية ووجود.
3
ـ الوجود أصيل والماهية اعتبارية.
4
ـ الماهية أصيلة والوجود اعتباري.
الفرض الأول يؤدي إلى القول بالسفسطة، وهي إنكار الواقع الخارجي، والفلسفة تبدأ حيثُ تنتهي السفسطة.
أما الفرض الثاني: وهو كون الوجود والماهية كليهما أصيلاً، أي كل منهما يملأ الواقع الخارجي وتترتب عليه الآثار الخارجية، فهو قول غير صحيح، لأنه يلزم منه المحال، على اعتبار أن كل شيء سوف يتعد، فكل شيء يصبح شيئين، كالقلم في يدك يصبح مزدوجاً، ونحن ندرك بالبداهة، أن له في الخارج حقيقة واحدة تترتب عليها الآثار.
ويبقى الفرضان الثالث والرابع، فما هو الصحيح منهما؟
الذي ذهبت إليه مدرسة الحكمة المتعالية هو القول الثالث، أي القول بأصالة الوجود واعتبارية الماهية، فالوجود هو الحقيقة في العالم العيني، وهو المنشأ لترتب الآثار الخارجية، أما الماهية فهي أمر اعتباري منتزع من الوجود، فلا تترتب عليها الآثار الخارجية وإنما الآثار تترتب على منشأ انتزاعها وهو الوجود.
ـ الأقوال في المسألة:
القول: بأصالة الوجود، وهو قول مدرسة الحكمة المتعالية، والقول بأصالة الماهية، وهو قول منسوب إلى مدرسة الإشراق وإلى السهروردي، وقول بالتفصيل وهو المنسوب إلى المحقق الدواني، فقد قال بأصالة الوجود في الواجب وأصالة الماهية في الممكن.
ـ الأدلة على أصالة الوجود:
1
ـ البرهان الأول:
الماهية من حيثُ هي لا موجودة ولا معدومة، الماهية بحد ذاتها لا تقتضي الوجود ولا العدم، لأن الوجود والعدم خارجان عن ذاتها، فهي متساوية النسبة إليهما، فعندما نريد تحليل ماهية ما، كماهية الإنسان فلا نقول الإنسان: حيوان ناطق موجود، لأن الوجود خارج عن ذات الماهية، الماهية متساوية النسبة إلى الوجود والعدم، فالجوهر مثلاً مأخوذ في ماهية الإنسان، ولهذا فلا يمكن أن نقول إن الإنسان يمكن أن يكون جوهراً ويمكن ألا يكون جهراً، لأن الجوهر مأخوذ في ماهية الإنسان لكن يمكن القول بأن الإنسان يمكن أن يكون موجوداً ويمكن ألا يكون موجوداً، لأن الوجود لم يؤخذ في ماهية الإنسان.
وهنا ينبغي أن نشير إلى أن للحمل صورتين:
الأولى: الحمل التحليلي أو الذاتي، وفيها نستخرج المحمول من ذات الموضوع، أي حمل الذاتي على الذات، ولذلك نقول: الإنسان جوهر جسم حيوان ناطق، فهنا نحمل الذاتي على الذات، كل هذه المحمولات ذاتيات بالنسبة للإنسان، وفي هذه الحالة نستخرج المحمول من ذات الموضوع، وهنا يستحيل حمل نقيض المحمول على الموضوع، فعندما نقول: الإنسان جوهر، لا يمكن القول: الإنسان ليس بجوهر.
الثانية: الحمل التركيبي، وهو حمل شيء من خارج ذات الموضوع على الموضوع، مثل: الإنسان أبيض، الإنسان طويل، الإنسان قصير، ففي هذه الحالة لا يستحيل حمل نقيض المحمول على الموضوع، إذ نستطيع القول الإنسان أبيض والإنسان ليس بأبيض، ففي هذا الحمل لا يكون المحمول مستخرجاً من ذات الموضوع، أي ليس من حمل الذاتي على الذات.
وهنا نسأل: أإنّ حمل الوجود والعدم على ماهية ما، كماهية الإنسان، من الحمل التحليلي أم التركيبي؟
الجواب: إن الوجود والعدم معنيان تركيبيان، أي ليسا داخلين في معنى الماهية، وإنما يحملان على الماهية من باب حمل شيء من خارج ذات الموضوع على الموضوع، ولذلك لا يستحيل حمل نقيض أحدهما على الماهية، فيمكن أن نقول: الماهية موجودة، الإنسان موجود، ونقول الماهية معدومة، الإنسان معدوم.
الحمل في الأول حمل الوجود على الماهية وفي الثانية حمل نقيضه وهو العدم، وهذا الحمل تركيبي، ولذلك فالوجود والعدم غير مأخوذين في مفهوم الماهية، وهذا معنى القول: (الماهية من حيث فهي ليست إلا هي لا موجودة ولا معدومة) وإن كانت الماهية في الواقع ونفس الأمر إما موجودة أو معدومة، كالإنسان.
والآن نقول مَن الذي أخرج ماهية الإنسان من حالة الحياد بين الوجود والعدم وجعلها متلبسة بالوجود؟
الجواب: إن الذي أخرجها هو الوجود، وهذا معنى أصالة الوجود.
هذا ملخص الكلام في الدليل الأول، وربما يقول قائل إن الذي يخرجها غير الوجود، أو هي التي تخرج، لكن يكون ذلك منها انقلاباً، وهو محال، لأنها متساوية النسبة للوجود والعدم، فكيف تتلبس بالوجود بدون سبب؟ فهذا هو الإنقلاب المحال.
إذاً لكي تخرج الماهية من حالة الاستواء إلى حالة الوجود لابدّ من مُخرِج لها، وهذا المُخرِج لا يمكن أن يكون هو الماهية لأنها متساوية النسبة للوجود والعدم، فلابدّ أن يكون هذا المخرج هو الوجود، ومن هنا تكون الآثار الخارجية ناشئة عن الوجود، والمتحقق في الخارج هو الوجود.
وهنا قد يثار إشكال ملخصه: لماذا لا يكون خروج الماهية من حد الاستواء إلى المرحلة التي تترتب عليها الآثار بنسبة مكتسبة من الجاعل؟ أي عندما تنتسب الماهية إلى الجاعل فإنها تتحقق، تكون في عالم الأعيان، وبالتالي تصبح منشأ لترتب الآثار.
والجاعل هو العلة الموجبة لخروج الماهية من حد الاستواء إلى الخارجية والتحقق والوجود.
الجواب: إن هذا الكلام غير تام، لماذا؟ لأننا نسأل عن هذه الحيثية المكتسبة، وهي أن الماهية عندما انتسبت إلى الجاعل فقد تحققت، وعندها تترتب عليها الآثار، أي حيثية تكون متلبسة بالوجود والأصالة، اكتسبتها من الجاعل، فنقول: أهذه الحيثية المكتسبة، حقيقية متأصلة في الأعيان وخاصة، أم لا هي أمر اعتباري؟ فإذا كانت أمراً خارجياً حقيقياً عينياً أصيلاً فهذا هو ما نعنيه بأصالة الوجود. وإن كانت هذه الحيثية المكتسبة، لم تغيِّر من حال الماهية، أي الماهية قبل وبعد الانتساب للجاعل مستوية النسبة للوجود والعدم، فحينئذ يلزم من ذلك الانقلاب، وهو محال.
بمعنى أن الأمر الاعتباري ينقلب إلى أصيل، الأمر المعدوم يغدو موجوداً بلا سبب فيلزم التناقض، والتناقض محال.
2
ـ البرهان الثاني: وله مقدمات، هي:
أ ـ أن الماهيات مثار الكثرة والمغايرة، فكل ماهية مغايرة للماهيات الأخرى، وهذه المغايرة تستند لذات الماهية، ولهذا يقال الماهيات منشأ الاختلاف والكثرة.
ب ـ أن الحمل هو الاتحاد في جهة ما، والاختلاف في جهة أخرى.
ولهذا ذكروا للحمل شرطين:
الأول: وجود المغايرة بين الموضوع والمحمول، وإلا فلا فائدة في الحمل، لأنه حمل الشيء على نفسه.
الثاني: أن يكون هناك اتحاد بينهما من جهة ما، وإلا فالمتباينان من كل جهة لا يصح حمل أحدهما على الآخر، مثل: الإنسان حجر، فهذه قضية كاذبة، إذاً نحتاج مناط وحدة واتحاد بين الأمرين.
ج ـ أن تحقق وجود الحمل أمر بديهي، كقولنا: الإنسان ضاحك، والإنسان ناطق.
فالحاصل من هذه المقدمات الثلاث، من الأولى: أن الماهيات مثار الكثرة والاختلاف، ومن الثانية، أن للحمل شرطين هما الاتحاد من جهة والاختلاف من جهة أخرى، والثالثة: أنه لا يمكن إنكار أن هناك حملاً فهو أمر بديهي.
وعلى هذا الأساس نقول أن جهة التغاير في كل حمل تعود إلى الماهيات، وهنا يجب أن نبحث عن جهة الاتحاد بين الماهيات في الحمل، وليس هناك سوى الوجود، لأنه لو كانت الماهية هي مناط الاتحاد في الحمل، لما تحقق حمل أصلاً في القضايا، لأن الماهيات ـ كما قلنا ـ هي مثار الكثرة والمغايرة، فلا يمكن أن يكون منشأ الاختلاف منشأ للاتحاد، منشأ الاتحاد لابدّ أن يكون شيئاً آخر، وهو الوجود، فالاتحاد بين الموضوع والمحمول في القضية الحملية هو الوجود، فهو جهة الوحدة بين الماهيتين المختلفتين، وهذا الكلام إنما يتم على القول بأصالة الوجود، وأنه المنشأ لترتب الآثار، أما لو كان الوجود اعتبارياً، فيتحقق الركن الأول فقط في الحمل دون تحقق الركن الثاني.
3
ـ البرهان الثالث: ويتم بيانه من خلال مقدمتين وهما:
أ ـ أن إدراكنا للأشياء، إنما يتم من خلال الماهيات، أي أن الماهيات هي الرابطة بين الذهن والخارج، فالرابطة بين الذهن والكتاب الخارجي مثلاً هي رابطة ماهوية لا وجودية.
ب ـ أن ماهية المعلوم بالذات، أي صورته، في الذهن، هي عين ماهيته بالذات.
فماهية الإنسان في الذهن نفسها في الخارج، لكن الإنسان في الذهن لا تترتب عليه الآثار المترتبة على ماهيته في الخارج، وهنا نقول لو كانت الماهية أصيلة، أي أنها هي المنشأ لترتب الآثار الخارجية، والوجود أمراً اعتبارياً، وأدركنا ماهية ما، كالنار مثلاً، للزم أن تأتي آثارها، كالإحراق والحرارة للذهن.
ولكن ذلك باطل جزماً، إذ لا تترتب الآثار على صورة الماهية، فإنّ ماهية النار في الذهن ومع ذلك لا يترتب عليها آثار النار وهي الاحراق، إذاً فالمنشأ لترتب الآثار هو الأصيل، وهو الوجود.
4
ـ البرهان الرابع: وله مقدمتان، وهما:
أ ـ أن الموجودات في الواقع الخارجي مختلفة من حيثُ التقدمُ والتأخرُ، والشدةُ والضعفُ، والقوةُ والفعلُ، فالعلة متقدمة على المعلول، ووجود العلة أشد من وجود المعلول ... الخ.
ب ـ أن الماهية بالمعنى الأخص متساوية النسبة، أي لا يختلف حال الماهية بالنسبة للقديم والحديث والشديد والضعيف ... الخ، لأن الماهية لا يقع فيها التشكيك.
فالماهية متساوية الحال بالنسبة لجميع الأمور، فلا يختلف حال الماهية بالنسبة للإنسان المتقدم والمتأخر، فالجنين والكبير، والحي والميت، نسميهم جميعاً إنساناً.
ولذلك قالوا: لا تشكيك في الماهية، فلو كانت الماهية هي الأصيلة لما وقع في الخارج تقدم وتأخر، أو شدة وضعف، لأن الماهية متساوية النسبة للجميع ـ حسب المقدمة الثانية ـ وفي المقدمة الأولى أثبتنا وجود التفاوت في الموجودات من حيثُ التقدم والتأخر و ... الخ.
إذاً الماهية ليست أصيلة. وإنما تثبت الأصالة لأمر آخر هو الوجود، ويكون التفاوت ـ التشكيك ـ للوجود لا للماهية.
ـ القول بأصالة الماهية:
القول الثاني وهو أصالة الماهية، ومنسوب إلى شيخ الإشراق السهروردي، وأشهر كتاب له هو (حكمة الإشراق) وفيه عنوان: «حكومة الماهية على الوجود»، وذكر برهاناً نتيجته أن الماهية أصيلة والوجود اعتباري، ويقوم هذا البرهان على ما يلي:
عندما نقول (الكتاب موجود)، نجد المحمول ـ موجود ـ اسم مفعول، وهو مشتق من المشتقات، أي أنه يشتمل على ذات ومبدأ للاشتقاق، بمعنى ذات ثبت لها الوجود كقولنا: عالم، شيء ثبت له العلم، أي ذات ومبدأ للاشتقاق.
كذلك هنا، موجود ينحل إلى شيء ثبت له الوجود، فننقل الكلام للوجود، ونسأل أَهو موجود أم معدوم؟ فإن كان موجوداً، فهذا معناه، أنه شيء ثبت له الوجود، فننقل الكلام للوجود الثالث، وهكذا ننقل الكلام حتى يتسلسل الأمر إلى ما لا نهاية، والتسلسل في الوجودات المحمولة محال، فلابدّ أن يكون الوجود اعتبارياً والماهية أصيلة.
وهذا الكلام يبتني على قاعدة قررها شيخ الإشراق ومفادها: (كل شيء لزم من تحققه تكرره لا إلى نهاية فهو اعتباري)، وهنا الوجود شيء ويلزم من تحققه في الخارج تكرره، فحينئذ يكون اعتبارياً، وصدر الدين الشيرازي في كتابه الأسفار قال: نقبل هذه القاعدة، ولكن لا نقبل النتيجة التي ذكرها السهروردي، أي أن تطبيق القاعدة غير صحيح.
والجواب على كلام السهروردي سهل، والمسألة تعود أساساً إلى بحث المشتق، ففي ضوء معرفة بحث المشتق تنحل هذه المسألة.
إن قولنا موجود، الموجود ليس ذات ثبت لها الوجود، وإنما الموجود هو عين الوجود وعين الواقعية، فهذا البرهان أو الإشكال ينشأ من تفسير المشتق بأنه ذات ثبت لها المبدأ، ولكن نقول أن المشتق يستعمل في موردين:
تارة نستعمله في ذات ثبت لها المبدأ، كما نقول: (الجدار أبيض)، أو (زيد عالم)، فعالم ذات ثبت لها العلم، لأن العلم شيء وزيد شيء آخر، ومرة أخرى قد نستعمل المشتق في موارد يكون المحمول عين الموضوع كما نقول: البياض أبيض، والنور مضيء، فالبياض هو عين الأبيض، وكذلك النور هو نفس الضوء.
وهكذا في الوجود موجود، فالمشتق هنا بنفس معنى مبدأ الاشتقاق، الوجود وموجود بمعنى واحد.
وقد ذهب صاحب الكفاية إلى أن الوجود دائماً بنفس معنى مبدأ الاشتقاق، وقال بأن الفرق بينهما اعتباري، لأن الفرق بين عالم وعلم، ليس في المعنى، المعنى واحد. وبذلك يثبت أن الأصيل هو الوجود.
ـ القول بأصالة الوجود في الواجب وأصالة الماهية في الممكن:
هناك قول ثالث بالتفصيل، أي أصالة الوجود في الواجب وأصالة الماهية في الممكن، وهذا القول منسوب إلى المحقق جلال الدين الدواني، وهو يعني بأصالة الوجود في الواجب، أي ليس هناك موجود غير الواجب تعالى، أي ما يتصف بالوجود حقيقةً هو (الواجب تعالى) واتصاف غيره بالوجود بمعنى انتسابه للوجود.
فعندما نقول (الماهيات موجودة) أي منتسبة للوجود، والانتساب يعني وجود رابطة بين الشيء والمبدأ، بينما يعني الاتصاف، الاتحاد بين الشيء ـ الذات ـ والمبدأ.
فعندما نقول (زيد قائم) يعني متصف بالقيام، أي هناك اتحاد بين الذات ـ زيد ـ والمبدأ ـ القيام ـ . وعندما نقول (بغدادي، تامر) فهناك شخص منسوب إلى بغداد، أو إلى التمر وهو بائع التمر.
وهذا يعني عدم وجود اتحاد بين الذات والمبدأ، أي بين زيد وبغداد، ولا بين زيد والتمر، وإنما هناك ارتباط ونسبة بين بغداد وزيد، بين المبدأ والذات، بينما عندما نقول (عالم) فهناك اتحاد بين زيد وبين العلم، فالانتساب يعني عدم الاتحاد، والاتصاف يعني الاتحاد، والانتساب كما في انتساب شخص إلى مدينة أو إلى مهنة ما، كالتمر نقول تامر، يعني أنه يبيع التمر، ولا يوجد اتحاد بينه وبين التمر.
وعلى هذا الأساس قال الدواني: إن معنى الإنسان موجود، يعني أنه منتسب إلى الوجود ومرتبط به، أي توجد علاقة وارتباط بين الوجود وزيد ولا يوجد بينهما اتحاد، فالماهية قبل الانتساب اعتبارية ولكنها توجد وتتحقق بالانتساب إلى الجاعل.
والجواب على ذلك: إنْ حصل للماهية ثبوت وتحقق بعد الانتساب للوجود تعالى ـ للواجب ـ فهذا هو معنى القول بأصالة الوجود، وإن ظلت الماهية على حالها بعد الانتساب للجاعل الواجب كما هي، فيلزم من ذلك الانقلاب وهو محال.
ومعنى الانقلاب أن الماهية كانت قبل الانتساب أمر اعتباري، وبعد الانتساب ـ مع أنه لم يطرأ عليها أي تغير في ذاتها ـ فإنها تكون أصيلة، وهذا يعني أنها في ذاتها تكون اعتبارية وأصيلة، وهذا اجتماع للنقيضين، لأن الاعتباري مقابل الأصيل وهذا معنى الانقلاب، وهو محال.

أ_ مفهوم العقل وقواه الإدراكية بين القرآن والفلسفة
1_
العقل وقواه الإدراكية في النظرة الفلسفية:
يغلب على النظرة الفلسفية اعتبار العقل جزءا من النفس، تسميها النفس الناطقة، كإحدى قوتي النفس الناطقة، وتقابل قوة النفس الحاسة. ومن ثم اصطبغ مفهوم العقل بنظرتهم إلى النفس..
أ- فالمذاهب الحسية تنظر إلى النفس نظرة مادية إذ هي جسمية ومن ثم فإن نظرتهم إلى العقل نظرة مادية فهو جسم وفعله جسمي كذلك، وأفكار العقل وإن كانت لا جسميات إلا أنها أفعال الأجسام. والعقل في نظرة الفلسفة التجريبية الحديثة لدى جون لوك مثلا "عنصر أولى بسيط التكوين لا يتجزأ ولا يتحلل كما هو الشأن في الشيء المادي". إلا عند الموت. وهو في معناه أحد قسمي التجربة الحسية، إذ إن المعرفة عنده حسية، أو تجريبية والتجربة نوعان: تجربة حسية تعتمد على الإحساس وتقوم على تقديم الانطباعات الحسية للعقل، الذي يشبه الصفحة البيضاء. وتجربة باطنية أو هي التأمل العقلي الذي يعتمد على التفكير العقلي، الذي يربط هذه الإحساسات ويكون عنها الأفكار. وهنا نلاحظ أن المذاهب الحسية تجعل من العقل عضوا مادياً هو الدماغ، الذي يستقبل الآثار الحسية ويقوم بدوره المادي في المعرفة كانعكاس لأثر الواقع. إذ الفكر عندها انعكاس الواقع المادي على الدماغ وأن الفكر ثمرة الدماغ والدماغ هو عضو الفكر كما تقول الماركسية.
ب_ أما المذاهب العقلية: فإنها تنظر إليه على أنه جوهره فمثالية أفلاطون تنظر الى النفس على أنها من طبيعة عالم العقل أو عالم المثل المفارق للمادة. وهي روحية تدرك الروحيات أي فيها قوة ادراك وهي بحلولها في البدن اجتمع إليها قوة الشهوة والغضب. والنفس هي واحدة وهذه قواها، وهي بسيطة. وعلى ذلك فالعقل طبيعته مفارقة ومن عالم المثل. وهو ليس بحاجة إلى المادة بل البدن كمادة يعوق تعقله، وسعادته بتعقل عالم المثل. فالبدن عائق له عن هذه السعادة. والمحسوسات إنما تذكر العقل بعالم المثل أو بالحقائق في العالم العقلي التي هي الحقيقة، والمحسوسات إنما هي ظلال وأشباح لتلك الحقائق العقلية المفارقة الصرفة.
كما أن أرسطو حارب الماديين في اعتبار العقل نوعا من الحواس وحارب في الوقت نفسه اقتصار فهم العقل على أنه قوة مفارقة، وطبق عليه مبدأه في القوة والفعل، فكان عنده قوة للنفس التي عرفها بأنها "كمال أول لجسم طبيعي آلي" بل هو النفس الناطقة أي النفس من جهة ما تعقل. ويفرق ارسطو بين عقلين: العقل الهيولاني الذي هو بالقوة أو المنفعل أو مجرد الاستعداد الذي يمكن الإنسان من إدراك معاني الأشياء وصورها. والعقل الفعال الذي ينتزع هذه المعاني أو الصور. والعقل المنفعل أو الهيولاني في نظره، كذلك هو جزء النفس الذي يتشكل بالصور العقلية ويقبلها، ويخرجه من القوة إلى الفعل بتأثير العقل الفعال، وعلى ذلك فالعقل عند أرسطو قوة صرفة، ومفارق لكل عضو، وروحي بقسميه للتفعل والفعال، وإن كان يعترف بالتجربة وأن المعقولات للعقل موجودة بالقوة في الصور المحسوسة غير مفارقة وأنه لا يمكن التعلم أو الفهم من غير الإحساس. والعقل عند ديكارت هو الذي يقفي وراء المعرفة ذلك أن النفس متحدة بالبدن ولكنها ليست متجزئة منقسمة كتجزئه وانقسامه. ومن ثم فمع اتحادها به هي غير له. وهي لا تتلقى الأثر مباشرة من أجزاء البدن بل تتلقاه من المخ، إذ إن أصغر أجزاء المخ الذي تعمل فيه والتي يسمونها الحس المشترك. وديكارت هنا يرى أن الجسم متصل بالنفس اتصالا مباشرا عن طريق جزء واحد من الجسم هو الغدة الصنوبرية، والإحساسات تنتقل من الأعصاب إلى هذا الجزء من المخ الذي تجىء منه وتنتهي إليه هذه الأعصاب وتبعث حركة كي تجعل النفس تحس.
ج_ أما فلاسفة المسلمين: فقد ساروا كذلك على النهج الفلسفي في اعتبار العقل جزء النفس المدركة.
فقد جعله ابن سينا العقل النظري في الإدراك الذي يقابل العقل العملي في الأخلاق وظيفة للروح الإنسانية، بناء على أن الإنسان مزدوج في طبيعته فهو جسم وروح، فقال: "الروح الإنسانية: هي التي تتمكن من تصور المعنى بحده وحقيقته منفوضا عنه اللواحق الغربية مأخوذا من حيث يشترك فيه الكثير. وذلك بقوة تسمى العقل النظري وهذه الروح كمرآة وهذا العقل النظري كصقالها". وفلاسفة المسلمين كما هو معروف يبنون نظرتهم للعقل على نظرتهم للنفس وكيفية خلقها، فهو فيضي إشراقي عند الفارابي وابن سينا وقائم على نظرية الاتصال كما عند ابن رشد.
2_
العقل في القرآن الكريم:
لقد أخطأت الفلسفة عموما في فهم العقل، حيث قررت أن تبحث في مكان المعرفة العقلية أهي في العقل أو لا؟ وأين موضع هذا العقل هل هو المخ أو الدماغ؟ وهذا الخطأ مترتب على تعريفهم للنفس وعلى القول بجوهرية العقل سواء كان مفارقا أو متصلا بالبدن أيما الاتصال.
والقرآن في نظرته للمعرفة العقلية، أو للمعرفة الإنسانية المميزة للإنسان عن الإدراك الغريزي في الحيوان، لا يجعل العقل جوهرا بل يجعله عرضا أو صفة مميزة للإنسان ذلك أن الإدراك وظيفة الروح سواء كان الإدراك عقلياً أو حسياً، ولا يمكن حصر الإدراك بصورة دقيقة في جزء معين دون غيره في الإنسان، لن الانسان مخلوق من مادة وروح، وتعمل كينونته الإنسانية بشكل متكامل ومتناسق وبسر لا يعلمه إلا الله سبحانه. وإن كان لنا ثمة علم فلا يعدو أن يكون وصفا لهذا الإدراك بحسب المدركات، المحسوسات والمعقولات. وبحسب ما بين القرآن من أوصاف وعمليات.
فالقرآن مثلاً لم يتحدث ولا في كلمة واحدة عن العقل بصيغة العقل وإنما ذكر التعقل أي الوظيفة أو العملية التي هي: تعقلون ويعقلون وعقلوه ونعقل، وقد ذكرت هذه الوظيفة للانسان في القرآن في تسعة واربعين موضوعا، ولم يعن بها أبداً عضوا أو جوهرا اسمه العقل بل نجد أنه لم يعز التعقل الى عضو في الرأس وانما عزاه الى جهة أخرى سماها القلب وهي ليست طبعا تلك الغدة الصنوبرية المادية وإنما هي الوظيفة المدركة فقال سبحانه: (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها).
كما ذكر القرآن كذلك وظائف للعقل مثل: التذكر والتفكر والنظر والذكر والفقه والتدبر، لتدل كلها على ما يدل على التعقل، من وظائف للإنسان، بما هو إنسان مميز على سائر المخلوقات، ويقوم بدور القيادة والاستخلاف في هذا الوجود المحسوس أو في عالم الشهادة والحياة الدنيا.
كما ذكر القرآن أعضاء نسب إليها هذه الوظائف. كالقلب والفؤاد وذكر ألفاظا تدل على حقيقة الإنسان كاللب، والحلم وتدل على أنه فيه قوة رادعة، كالنهي والحجر. ومدح أولى الألباب وأولى النهي، وإن كانت الكلمتان تدلان على ما يتميز به الإنسان على غيره، وعلى ما يطلقه جمهور الناس من وقار وهيبة وهيئة محمودة للإنسان، وعلى ما يحسنون اكتسابه من علم ينفع وعلى ما يدل على صحة الفطرة واستقامتها. ولا أظن أن نسبة التعقل والفقه إلى القلب، وجمع الفؤاد إلى البصر والسمع، يدل على نسبة مادية فيكون المقصود من القلب هو العضو المادي ومن الفؤاد هو وسط القلب كموضع مادي كذلك، بل إن لذلك توجيها مفاده أن القلب موضع أعمق الأفكار وأصدقها وأوثقها، ودلالة على المعرفة العميقة، ولاحتمال أن حركة القلب بالدم الذي ينبض يدل على الحياة، فترتبط المعرفة أو الإدراك أو عمل الكينونة الإنسانية بحياة القلب. وأن التعبير بالفؤاد الذي هو "وسط القلب وهو من القلب كالقلب من الصدر"، كما قال تعالى: (فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور)، إنما يدل على عمق المعرفة وأنها راجعة إلى حقيقة الإنسان المميز بها. أو كما قيل من أن مادة الفؤاد في اللغة تدور على حمى وشدة حرارة، اذ قالوا فأد اللحم فأداً: شواه فهو فئيد. ومنه الفؤاد لحرارته وتوقده. ويطلق على قلب كل حي ذي قلب إنسانا كان أو غيره وجمعه أفئدة. ولكن القرآن لم يستعمله إلا في الإنسان في مواضعه الستة عشر التي ذكره فيها، ومن ثم جمع الله بينه وبين السمع والبصر لما فيه من الحرارة والحركة أو التوقد الذي يجعل هذه الحواس تعمل، فتؤدي مهمتها معه في الإدراك، ولذا فقد جاء الجمع بين الحواس والفؤاد في القرآن في معرض الامتنان بالنعمة المذكرة لنا بأن الله سبحانه هو الواهب لنا ما يميزنا عن سائر الحيوانات فقال سبحانه: (وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون).
أما المتكلمون، فقد كانوا أكثر حيطة في معنى العقل إذ عرفوه بأنه مناط التكليف. وفسر الأشعري مناط التكليف بأنه العلم ببعض الضروريات. كما عرفه القاضي: بأنه العلم بوجوب الواجبات واستحالة المستحيلات ومجاري العادات أما الرازي فقد فسره بأنه صفة غريزية يتبعها العلم بالضروريات عند سلامة الآلات. فاعتباره عندهم صفة أو ميزة غريزية فيه ابتعاد عن اعتباره عضواً أو تسميته جوهرا. إلا ما كان من متأخريهم إذ سموه بالجوهر وإن شرحوا مقصودهم بالجوهر فقال السيد الجرجاني عنه أنه "موجود ممكن ليس جسما ولا حالا في جسم ولا جزءا منه بل هو جوهر مجرد في ذاته مستغن عن الآلات الجسمانية".
نعود فنقرر أن القرآن حينما تحدث عن المعرفة العقلية لم يكن يعنيه أن يعطينا نظرية في العقل، وإنما همه أن يعطينا العقل من جهة وظيفة الإنسان العقلية أو القلبية، أو حتى نكون من أولي الألباب وأولي النهي. ولذلك فإذا ما جئنا لوظائف الإنسان بصفته مفكرا وعاقلا ومنوطا به وظيفة الاستخلاف في الأرض، وجدنا أننا إذا عبرنا عنها باستعمال العقل فإنها لا تنحصر في العقل الذي هو مناط التكليف، وإنما تتجاوزه إلى العقل الوازع والعقل المدرك والعقل الذي يناط به التأمل الصادق والحكم الصحيح، بل يعم الخطاب القرآني كل ما يتسع له الذهن الإنساني من خاصة أو وظيفة.
فمن دعوة القرآن إلى التعقل عامة قوله سبحانه:
(
إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون).
(
وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون).
ومن خطابه إلى التعقل بمعنى أن يكون للإنسان عقل وازع يردعه عن الشر: قوله سبحانه: (وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير).
(
ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلك وصاكم به لعلكم تعقلون).
ومن خطاب القرآن الذي يريد به وظيفة الادراك قوله سبحانه:
(
والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب).
أما خطابه الذي يريد به التعقل بمعنى التفكير والاستنتاج، فقد ورد بعبارات التفكر والفكر والنظر والبصر والتدبر والفقه والذكر والعلم وسائر العمليات الذهنية ذلك قوله سبحانه: (قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون).
ب_ علاقة العقل بالحواس بين القرآن والفلسفة
وعلى ضوء مفهوم العقل وطبيعته، يمكن بيان الاختلاف بين القرآن والفلسفة في علاقة العقل بالحواس:
1_
فالمذهب الحسي التجريبي: يجعل العقل نوعا من الحواس كما في الاتجاه القديم، ويجعله انعكاسا أو أثراً للمادة، كما في الاتجاه الجديد. وعلى ذلك فان الأهمية إنما هي للحواس والتجربة، والعقل جزء من هذه التجربة الحسية، ومعنى من معانيها. وترجع عمليات العقل إلى تداعي المعاني القائمة على الآثار الحسية في التجربة. ولعل نظرية الظاهرة الثانوية تتفق مع هذا المذهب. تلك النظرية التي مفادها أن العلاقة بين الذهن والجسم أو بين العقل والحواس علاقة سببية، غير أن هذه السببية ليست متبادلة بينهما، وإنما يكون التأثير فيها من جانب فحسب، أي أن الحواس تؤثر في العقل أو التغيرات الجسمية تؤدي إلى حدوث تغيرات ذهنية. ومن ثم فليس النشاط العقلي إلا نتاجا ثانويا لعملية فيزيائية أو حسية بحتة.
2_
أما العقليون: فيقدمون العقل على الحس وإن كانوا يعترفون بأن الحس يقدم صورة عن العالم الخارجي ولكن هذه الصورة لا قيمة لها عند أفلاطون أكثر من أنها تذكرنا بمثالها في العالم العقلي والحواس، فالعلاقة علاقة مصاحبة وليست علاقة تأثير، ولكن يتميز العقل بأنه هو الإدراك السليم، ذو المعرفة الواضحة المتميزة بينما تتميز الحواس بإدراك غامض ومبهم.
ويرى أرسطو كما تبعه في ذلك فلاسفة المسلمين: أن العلاقة بين العقل والحواس تقوم على التأثير المتبادل فالحواس تقدم للعقل صورا عن الأشياء من خلال الحواس الظاهرة والباطنة، ويقوم العقل بتجريد وانتزاع الصور العقلية من معطيات الحواس بإشراق العقل الفعال عند ابن سينا والفارابي، وباتصال العقل الفعال بالعقل الهيولاني عند ابن رشد. والفكرة قائمة على نظرية اتحاد النفس بالبدن، فالعقل والحواس متحدان كذلك ومن ثم فإننا لا نستطيع التفكير دون صورة حسية، كما أن الإحساسات تبقى متفرقة دونما عقل يجمعها ويجرد منها الصورة العقلية.
3_
أما القرآن الكريم: فإنه ينظر إلى أن ثمة علاقة واضحة بين العقل والحواس، إذ إنهما مشمولان بطبيعة الإنسان المزدوجة، المادية والروحية المخلوقة لله سبحانه والتي تحيا بقدرة الله وتؤدي دورها المعرفي بما آتاها من استعدادات وطاقات.
والعلاقة بين العقل والحواس في القرآن تقوم:
أ: على عدم الاقتصار على كل واحد منهما بعينه، وعدم تفسير الآخر به، فلا الحس عقلاً، ولا العقل حسا، وإنما كلاهما مخلوق لله في طبيعة الإنسان المخلوقة لله سبحانه، والمشمولة برعايته وعنايته.
ب: يجتمع على الحس والعقل معا، فالحس ليس طريقا وحيدا، كما أنه ليس طريقا مستقلا، وإنما تعمل الحواس والعقل معا. كما يقول الله سبحانه: (ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا).
ج: الحواس والعقل معا في مجال المحسوسات فحسب، وإن كان العقل منفردا بقوانينه في معرفة ما وراء عالم الشهادة. وفي مجال عالم الحس تنتهي المعرفة الحسية أو التجريبية أو العملية القائمة على الملاحظة والتجربة الى معرفة عقلية. وهذا يعني أن الحس بإدراكاته لا معنى له إلا بالعقل، وليس هذا إلغاء للحواس ولا لدورها في المعرفة. أما كيفية انتهاء المعرفة الحسية إلى معرفة عقلية أو كيفية العلاقة بين الحواس والعقل، فلا يدخل في نطاق مهمة القرآن ومنهجه في إثارة القضايا، إذ إنه ليس كتابا لعلم النفس أو الفيزياء أو التشريح. وإن كان لا يرتضي النظريات الفلسفية التجريبية والعقلية المتطرفة ولا تؤدي إلى تصوره النزعة النقدية ذلك أنها وإن اعترفت بالعلاقة بين الحس والعقل معا إلا أنها حصرت دور العقل النظري في الظواهر الحسية. بينما جعل القرآن لهذا العقل قدرة الاستدلال على وجود عالم الغيب من خلال قوانينه في عالم الشهادة سواء بالنظر إلى المحسوسات وتحويل هذا الإدراك الحسي إلى إدراك عقلي (حس وعقل معا) أو باستدلاله بالقوانين العقلية التي ليس منشؤها الحس أو لا تتعامل مع الحس وإنما بالاستنتاج أو الفكر.
يقول الله سبحانه:
(
قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وابصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به أنظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون).
ففي هذه الآيات اعتبار بطريقين هما الحس والعقل معا كما نقل الرازي قولا في تخصيص القلب والسمع بالختم مقالة: "قالوا وإنما خص القلب والسمع والبصر بذلك لأن الأدلة السمعية لا تستفاد إلا من جهة السمع والأدلة العقلية لا تستفاد إلا من جانب القلب".
وبغية بيان هذه المسألة بجلاء نشير بإيجاز إلى بعض المسائل، وهي:
1
ـ الجذور التاريخية للمسألة:
أكانت هذه المسألة مطروحة في الفلسفة القديمة أم لا؟
مسألة وحدة الوجود لم تكن مطروحة في الفلسفة سابقاً، لكن في كل الفلسفات القديمة قد نعثر على قول بالوحدة، وإن كانت الأقوال بالوحدة مختلفة، فمنها قول بوحدة الحقيقة، كما في تراث الهند القديمة ومنها قول بوحدة العالم ... الخ.
أما في الفلسفة الإسلامية فإن هذه المسألة لم تتبلور بصورتها النظرية في تراث ابن سينا أو الفارابي من قبله، وإنّما تبلورت في تراث الشيخ محي الدين ابن عربي، صاحب (الفتوحات المكية) فهو الذي أشاد أركان هذه المسألة، ثم أخذت صورتها الناضجة في مدرسة الحكمة المتعالية على يد صدر الدين الشيرازي.
2
ـ الأقوال في المسألة:
حين نراجع تراث الأمم الأخرى نجد عدة أقوال في الوحدة، كوحدة الحقيقة، ووحدة العالم، ووحدة المادة، كما في الفيزياء الحديثة، أما في تراث المتصوفة والعرفاء الإسلاميين، فماذا نجد حول مسألة الوحدة؟
نجد عدة أقوال: منها القول بوحدة الشهود، وهذا ما قاله المتصوفة القدماء، وهي تعبر عن صفة نفسية للصوفي أو العارف، أي أنه لا يشهد ولا يرى إلاّ الله تعالى أما غيره فلا يراه، كما في تعبير سعدي الشيرازي إذ يقول: قد يصل الانسان إلى مقام لا يرى فيه سوى الله تعالى في هذا الكون.
وهناك قول آخر في الوحدة في تراث العرفاء، وهو وحدة الوجود، وهي تعني أن الوجود واحد لا كثرة فيه. «فليس في الدار غيره موجود ديار»، حسب تعبيرهم، فحقيقة الوجود تساوي ذات الواجب تعالى، أما نحن «فعدم متظاهر بالوجود» كما يقول جلال الدين الرومي، أو «العالم غائب ما ظهر قط، والله تعالى ظاهر ما غاب قط»، كما يقول ابن عربي، وإذا تنازلوا قالوا إن العالم شيء تجلت فيه الحقيقة الإلهية، فهو عبارة عن ظل ليس إلاّ.
وهناك قول بالوحدة تبنته مدرسة الحكمة المتعالية، وهو القول بأن حقيقة الوجود حقيقة واحدة مشككة، فالوجود واحد ذو مراتب، وهو يعني الوحدة في عين الكثرة، والكثرة في عين الوحدة، أي الوجود حقيقة واحدة يرجع كل ما به الامتياز إلى ما به الاشتراك، ويرجع ما به الاشتراك إلى ما به الامتياز، فالوجود حقيقة واحدة مشككة، يرجع ما به الامتياز إلى الوجود وما به الاشتراك إلى الوجود.
والقول الآخر في هذه المسألة المنسوب للمشائين، وهو القول بأن الوجود ليس واحداً، وأن حقائق الوجود متباينة بتمام الذات، ولا اشتراك ولا سنخية بين الموجودات.
3
ـ تحرير محل النزاع في هذه المسألة:
يتوقف بيانه على ذكر نقطتين:
أ ـ بيان المقصود بحقيقة الوجود: المراد بحقيقة الوجود، أحد ثلاثة معاني، فإما يراد بها الوجود الواجب تعالى، أو يراد بها ومراتب الوجود المتكثرة بما لها من السعة والانبساط، فيشمل الوجود الواجب والممكن بتمام مراتب الممكن بدءً بالمادة الأولى، أو يراد بحقيقة الوجود كُنْه الوجود. فيقال: حقيقة الوجود مجهولة، أي كنه الوجود مجهول.
لكن ما هو المعنى المراد هنا بحقيقة الوجود؟ المعنى المراد هنا هو المعنى الثاني، أي مراتب الوجود بما لها من السعة والانبساط التي تبدأ من المادة الأولى وتتصاعد حتى تشمل الواجب، فتدخل فيها تمام الموجودات، هذا هو المقصود بتمام حقيقة الوجود.
ب ـ المقصود بالتشكيك: التشكيك له ثلاثة معاني: فمرة يطلق بالمعنى اللغوي، فنقول: الرازي إمام المشككين، والمقصود هو معناه اللغوي، أي الذي يثير الشكوك والإشكالات والشبهات، حتى يقال إن الرازي ساهم في تطوير التراث العقلي عند المسلمين من خلال التشكيك والإشكالات الكثيرة التي كان يثيرها، فيضطر الآخرون للإجابة عليها.
ومرة أخرى يراد بالمشكك ما له عدة معاني متضادة، أي هو مشترك لفظي، من قبيل الجون الذي ينطبق على الأسود والأبيض.
ومرة ثالثة يقصد بالمشكك صفة للمفهوم الكلي، فالكلي المشكك هو الكلي المتفاوت المختلف في انطباقه على مصاديقه، أي في مقابل الكلي المتواطئ وهو الذي تكون مصاديقه ليست مختلفة، فالأبيض مفهوم كلي مشكك، لأن البياض له مراتب، والوجود أيضاً مفهوم متفاوت في انطباقه على مصاديقه، وهذا التشكيك هو التشكيك المنطقي، تشكيك مرتبط بالمفهوم.
ومرة أخرى نريد به صفة الوجود الحقيقية، أي ليس صفة لمفهوم الوجود بل صفة لحقيقة الوجود أي بالمعنى الفلسفي، صفة للوجود الخارجي. الوجود بما له من مراتب متعددة تبدأ بأدنى المراتب وتنتهي بالمرتبة التي لا يحدها حد، فالكثرة في هذه المراتب تعود للوجود، كما أن الوحدة بينها تعود للوجود، فما به الامتياز هو الوجود، وما به الاتحاد هو الوجود، وهذا هو التشكيك الفلسفي، وهذا هو المقصود بالتشكيك في قولنا: «الوجود حقيقة واحدة مشككة».
تلزم الإشارة إلى أن في التشكيك مصطلحاً آخر، فتارة يكون تشكيكاً عامياً، وأخرى يكون تشكيكاً خاصياً.
فالتشكيك العامي يعني أن جهة الاختلاف في شيء وجهة الاتفاق في شيء آخر، أي إذا كان ما به الاختلاف غير ما به الاتفاق يعبر عن هذا التشكيك بالعامي، وإذا كان ما به الامتياز عين ما به الاتحاد فهذا هو التشكيك الخاصي.
ولبيان الفرق بين التشكيك العامي والخاصي نذكر بعض الأمثلة، المثال الأوّل: للتشكيك العامي، نقول: أن الوجود يصدق على الأب والابن معاً، ولكن صدق الوجود على الأب ليس بدرجة صدقه على الابن، لماذا؟ لأن الأب متقدم والابن متأخر في الوجود، فهنا ما به الاتحاد هو جهة الوجود، وجود الأب والابن، وما به الامتياز والاختلاف ليس هو ما به الاتحاد وهو الوجود، بل شيء آخر، وهو الزمان، لأن زمان وجود الأب غير زمان وجود الابن، فما به الاتحاد غير ما به الاختلاف، هذا هو التشكيك العامي.
أما التشكيك الخاصي فنذكر له مثالين، الأول: عقلي، والثاني: عرفي حسي، فنقول في المثال العرفي الحسي: النور له مراتب، وهو ينطبق عليها من أدناها إلى أعلاها، والنور من المفاهيم المشككة، لأنه ينطبق على نور الشمعة ونور الشمس، وبين الشمعة والشمس مراتب عديدة من النور، فهناك مصباح درجة نوره واطئة ـ كمصباح النوم ـ ومصباح درجة إنارته أعلى وأعلى حتى تصل لضوء الشمس، فهنا ما به الاتحاد والاشتراك بين هذه المراتب من النور هو النور وما به الاختلاف بين هذه المراتب من النور هو النور نفسه ايضاً فالمصباح ذو الدرجة (40) والمصباح ذو الدرجة (60) لا يختلفان في شيء آخر غير النور، فما به الاتحاد وما به الاختلاف بين الدرجتين من النور هو نفسه النور، فلا شدة الشديدة ولا ضعف الضعيف من النور مأخوذة فيه قيداً، فالشدة والضعف في أصل النورية.
والمثال العقلي: خُذ مراتب العدد المختلفة 1، 2، 3، 4 ... الخ، فهذه المراتب ينطبق عليها العدد، ولكنه متفاوت في انطباقه على هذه المراتب، فالواحد غير الأربعة فما به الاتحاد بين هذه المراتب هو العددية، لأن الواحد عدد والأربعة عدد وما به الامتياز الذي جعل الواحد غير الأربعة والفرد غير الزوج هو نفس العددية أيضاً، لأن الإثنين لا يختلف عن الثلاثة إلاّ في العددية، كما أن الإثنين لا يتفق مع الثلاثة إلاّ في العددية، فما به الاشتراك هو العددية وما به الامتياز هو العددية.
والتشكيك في هذا الفصل هو التشكيك الخاصي. وحقيقة الوجود، حقيقة واحدة ذات مراتب مشككة متمايزة في الشدة والضعف والتقدم والتأخر، فما به الاتحاد بين مراتب الوجود هو الوجود وما به التمايز والاختلاف بين مراتب الوجود هو الوجود نفسه.
ـ المراتب العرضية والطولية:
ما نلاحظه من كثرة في الوجود له نوعان، الكثرة الطولية، والكثرة العرضية، فنحن نلاحظ كثرة ماهيات فتقول هذا كتاب، هذا قلم، ذاك ماء ... الخ، فهذا النوع من الكثرة يعود إلى كثرة الماهيات بالذات، لأن ماهية الماء غير ماهية القلم، فالماهيات متعددة كثيرة، فمنشأ الكثرة هنا هو الماهيات، والوجود يتصف بهذه الكثرة لكن بالعرض لا بالذات، لأن الماهية متحدة بالوجود، وحكم أحد المتحدين يسري إلى الآخر، فلذلك تسري هذه الكثرة من الماهية إلى الوجود، فاعتبار أن الماهيات أوعية وقوالب الوجودات الإمكانية، وهذه كثرة اعتبارية، لأن الماهية اعتبارية، وهي صفة للماهية، وصفة الاعتباري اعتبارية، وهذا نوع من الكثرة الوجود يتكثر بالماهيات بالعرض لا بالذات من خلال تخصصه بالماهيات.
وهناك كثرة أخرى نراها في هذا العالم، كما نقول وجود العلة غير وجود المعلول، والوجود بالقوة غير الوجود بالفعل، وجود الواجب غير وجود الممكن، والعلة والمعلول كلاهما أمر وجودي، والقوة والفعل كلاهما أمر وجودي، والوجود الواجب والممكن كلاهما أمر وجودي، فهنا الماهية لم تؤخذ في الكثرة، فعندما نقول (الوجود الواجب) تعني الوجود المستغني عن غيره، فالوجوب هنا عين الوجود، لأن الوجوب هو شدة الوجود، وعندما نقول (الوجود الممكن)، فالإمكان هنا بمعنى الفقر، أي الإمكان عين وجود الممكن وليس صفة للماهية، فالممكن معناه الموجود الفقير المحتاج لغيره.
فالكثرة هنا ثابتة للوجود لأنه لا ماهية هنا، وهذه الكثرة تعني أن حقيقة هذه الكثرات واحدة، فهذه الكثرة تمثل مراتب للموجود، إذ أن مرتبة الممكن أوطأ من مرتبة الواجب، فالكثرة هنا كثرة طولية، والمقصود بالطولية: الشيء في طول الآخر، أي أنه مترتب عليه، فالمعلول في طول العلة، أي مترتب عليها الاثنين في طول الواحد، أي مترتبة عليه.
وعلى هذا الأساس نقول أن هذه الكثرة التي نلاحظها في وجود العلة والمعلول هي كثرة ثابتة بالوجود وبالذات، فالوجود حقيقة واحدة متكثرة، أي لها مراتب طولية ومراتب عرضية، والمراتب العرضية ناشئة من تكثر الوجود بواسطة الماهيات، والمراتب العرضية هي المراتب التي في رتبة واحدة، في مستوىً واحد، وعلى صعيد واحد، كما في القلم والكتاب والانسان والتراب والنبات، بينما الواجب والممكن ليسا في رتبة واحدة.
ـ التقييد والإطلاق في مراتب الوجود:
هناك تقييد وإطلاق في مراتب الوجود، لكنه ليس إطلاقاً وتقييداً لفظياً بمعنى أنه ليس تقييداً وإطلاقاً مفهومياً، كما نقول: إنسان وإنسان عالم، أو فقير وفقير عادل، وإنّما هو إطلاق وتقييد في مراتب الوجود، في حقيقة الوجود الخارجية العينية، فالمرتبة الضعيفة ـ للوجود مراتب متسلسلة من المادة الأولى (الهيولى) وتتصاعد إلى أعلى المراتب وهي الواجب تعالى ـ مقيدة، بينما المرتبة التي تليها مطلقة بالنسبة إليها، لأن المرتبة الضعيفة فاقدة لكمال المرتبة الأقوى نذكر مثالاً ليتضح الأمر: إذا كان لدينا قطعتان الأولى طولها متر والثانية طولها مترين، فالأولى نقول مقيدة بالنسبة للثانية، لأنها فاقدة لكمال المرتبة الأخرى ـ ذات المترين ـ لأن التي طولها متر تنقص مقداراً من الوجود وهو ما تشتمل عليه الثانية ذات المترين، بينما الثانية تشتمل على كمال أوسع تفقده التي قبلها وعليه فإن كل مرتبة ضعيفة تكون مقيدة، وكل مرتبة بالنسبة لما فوقها تكون مقيدة، لأنها فاقدة لكمال المرتبة الأشد.
إذاً المراتب الطولية للوجود فيها تقييد وإطلاق، وهذا ناشئ من فقدانها للكمال الذي تحتويه المرتبة الأعلى، فكل مرتبة من الوجود لها حدود ما عدا أعلى مراتب الوجود فلا حدَّ لها، وهذه الحدود تكون ملازمة للإعدام، أي وجودها ينتهي عند هذه النقطة.
أما الواجب فلا حدَّ له، لأنه بسيط غير مركب من الوجود والعدم ـ وهذا تركيب اعتباري عقلي ـ اي عدم كمال، فهو وجود صرف مطلق كامل.
ـ ما نُسب إلى المشائين:
ذهب قوم من المشائين إلى كون الوجود حقائق متباينة بتمام ذواتها، ولا توجد جهة وحدة ترجع إليها هذه الحقائق الوجودية، ويمكن تحليل هذا المدَّعى إلى دعويين:
الأولى: أن الواقع الخارجي كثير حقيقةً، بخلاف ما يذهب إليه بعض المتصوفة من أن الواقع الخارجي لا تكثر فيه.
الثانية: أن هذه الحقائق متباينة بتمام ذواتها ولا توجد بينها جهة اتحاد.
أما ما استدل به القوم على الدعوى الأولى، فهو أن الموجودات الخارجية تختلف من حيثُ الآثار المترتبةُ عليها، فالنار تختلف عن الماء في آثارها، وهذا يختلف في آثاره عن التراب، وهكذا، وإن اختلاف أثر النار عن أثر الماء يكشف عن اختلاف المؤثرات، فأثر النار هو الإحراق وأثر الثلج هو البرودة، ولذلك فإن الواقع الخارجي مؤلف من حقائق متعددة كثيرة، تبعاً لاختلاف الآثار.
هذه الدعوى الأولى، وهي إن الواقع الخارجي مؤلف من حقائق كثيرة لا من حقيقة واحدة كما يدعي بعضهم.
والدعوى الثانية في القول المنسوب إلى المشائين: أن هذه الحقائق المتعددة والموجودة في العالم الخارجي متكثرة بتمام الذات، والتغاير والتباين كما نعلم، تارة يكون بتمام الذات، كالتباين بين الماهيات والأجناس العالية، كالكم والكيف والجوهر ... الخ.
وتارة يكون التباين ببعض الذات، كما في التباين بين الإنسان والفرس، اللذين يشتركان في الحيوانية ويتباينان في فصل كل واحد منهما، ففصل الانسان هو الناطق وفصل الفرس هو الصاهل، وتارة يكون الاختلاف والتمايز بشيء خارج عن الذات، أي في الأعراض الخارجة عن الذات، كما في ملاحظة شيء لونه أبيض وآخر لونه أسود، فالتغاير في أمور عرضية خارجية.
فهؤلاء قالوا: إن هذه الحقائق الموجودة في الخارج، متغايرة ومتباينة بتمام الذات، واستدلوا على ذلك، فقالوا: لأن الوجودات بسيطة وليست مركبة، فإذا كانت متباينة ـ كما بينا في الدعوى الأولى ـ فلا بد أن يكون الاختلاف والتغاير بينها بتمام ذواتها، وإلاّ لما كانت بسيطة بل يلزم كونها مركبة، مركبة من حيثية بها الاشتراك بينها وبين الموجودات الأخرى، وحيثية أخرى بها الامتياز عن الموجودات الأخرى، وقد تبين أن هذه الحقائق الوجودية بسيطة وإن مراتب الوجود بسيطة وليست مركبة.
إذاً يكون وضع هذه الموجودات نظير المقولات والأجناس العالية، كالجوهر والكم والأين والاضافة ... الخ، أي إنّ التمايز بينها بتمام ذواتها، هذا ما ذهب إليه المشاؤون من أن الموجودات الخارجية كثيرة ومختلفة بتمام الذات.
ـ إشكال وجواب:
إذا كان الوجود الخارجي مؤلفاً من جملة حقائق متباينة بتمام الذات فكيف يصح أن نحمل عليها مفهوماً واحداً وهو مفهوم الوجود، فنقول: النار موجودة، الكتاب موجود، الماء موجود، فكما ذكرنا سابقاً أن مفهوم الوجود مشترك معنوي، فهو يحمل عليها بنفس المعنى وهذا غير ممكن، لأن هذا المفهوم البديهي واحد، والواحد من حيثُ هو واحد لا يمكن أن يحكي عن الكثير من حيثُ هو كثير، أو عن المتباينات من حيثُ إنها متباينات متكثرة، هذا هو الإشكال، أي أن مفهوماً واحداً هو مفهوم الوجود يحمل على هذه الموجودات المتباينة بمعنى واحد، وهذا لا يصح، لأن هذا المفهوم الواحد من حيثُ هو واحد لا يمكن أن يحكي أمور متكثرة ومتباينة من حيثُ هي متكثرة.
والجواب على ذلك: أن مفهوم الوجود هذا المفهوم العام إذا كان يحمل على هذه الموجودات المتباينة بتمام الذات، بنحو صدق الذاتي على أفراده، كما في صدق الكتاب على هذا الكتاب وذاك الكتاب، فيرد الإشكال المذكور، ولكن الأمر ليس كذلك، لأن مفهوم الوجود إنما يصدق على هذه المصاديق الخارجية بنحو العرض اللازم، وهو نحو صدق مفهوم العرض على المقولات التسعة العرضية، فمفهوم العرض لا يصدق عليها بنحو صدق الذاتي على أفراده، كصدق مفهوم القلم على هذا القلم وذاك القلم وكل قلم، وإنما يصدق عليها بمعنى أنها تشترك جميعها ـ المقولات التسعة ـ في مفهوم عام عرضي وهو مفهوم العرض، والأمر هنا كذلك، أي إن مفهوم الوجود يصدق على هذه الموجودات المتباينة بتمام الذات، من قبيل صدق العرض اللازم على هذه المقولات.
ـ وحدة الوجود التشكيكية:
والاتجاه الآخر هو الذي ذهبت إليه مدرسة الحكمة المتعالية، وهو القول بالوحدة التشكيكية للوجود، فالقول المنسوب للمشائين غير تام، لأن اختلاف الآثار صحيح أنه يكشف عن اختلاف المؤثرات، ولكن أهذه المؤثرات ـ الموجودات ـ هي حقائق متباينة بتمام الذات أم هي حقيقة واحدة لها مراتب متعددةّ الصحيح ما تقوله مدرسة الحكمة المتعالية وهو أن الوجود الذي يكون منشأ لترتب الآثار هو حقيقة واحدة مشككة ذات مراتب متعددة، تبدأ بأدنى المراتب، المادة الأولى ـ الهيولى ـ وتنتهي بالمرتبة التي لا يحدها حد.
وهنا قد يقال: كيف تكون الموجودات كثيرة حقيقة وبسيطة حقيقةً، ومع ذلك تعود إلى جهة واحدة، فإن رجوعها إلى جهة واحدة يعني أنها مركبة، كيف نقول ذلك؟
لابد أن نقول أن هذه الكثرة التي نراها في الخارج لا تعود إلى جهة كثرة حقيقية واقعية في العالم الخارجي، وهذا الإشكال ينشأ من الخلط والتوهم بين التشكيك العامي والخاصي، وقد قلنا أن ما به الاختلاف مرة يعود إلى ما به الاشتراك، فيكون تشكيكاً خاصياً، إذ هناك مراتب مختلفة يعود بها ما به الاتحاد إلى ما به التمايز والاختلاف، ومرة أخرى لا يعود ما به الاختلاف إلى ما به الاتحاد فيكون التشكيك عامياً، فتوهم أن هذا التشكيك عامياً يؤدي لاثارة مثل هذا الإشكال، إما إذا عرفنا أن التشكيك هنا خاصيٌّ ـ ما به الاشتراك عين ما به الاختلاف ـ حقيقة واحدة، فعندها نستطيع أن نلتزم ببساطة الموجودات من جهة ورجوع الكثرة وما به التمايز إلى الوحدة من دون أن تكون هذه الكثرة باطلة، وعليه نقول أن ما نراه من كثرة بين الموجودات يعود إلى الوجود نفسه، فإن ما به الاتحاد وما به التمايز يعودان إلى حقيقة واحدة، مثلما قلنا من الاتحاد والتمايز بين الأعداد، الواحد والاثنين والثلاثة ... الخ، إذاً اتضح أن الواقع الخارجي حقيقة واحدة مشككة ذات مراتب، يعود ما به الاتحاد لنفس ما به التمايز والاختلاف، بالتشكيك الخاصي.
ومدَّعى مدرسة الحكمة المتعالية، وهو أن الوجود حقيقة واحدة مشككة، يعود إلى أمرين:
الأوّل: أن الواقع الخارجي حقيقة واحدة.
والثاني: أن هذه الحقيقة الواحدة مشككة، بالتشكيك الخاصي.
ولكن ما الدليل على أن الواقع الخارجي حقيقة واحدة؟ نقول إن مفهوم الوجود مشترك معنوي، أي يُحمل بمعنىً واحد على مصاديقه، وهنا نسوق هذا الدليل وهو قياس استثنائي مؤداه ما يلي: لو لم يكن الوجود حقيقة واحدة لكان حقائق متباينة، والتالي باطل فالمقدم مثله، أي الوجود ليس حقائق متباينة، إذاً الوجود حقيقة واحدة.
ولتوضيح هذا الدليل نسوق هذه المقدمة: فنقول إن المفهوم والمصداق من حيثُ الذات والذاتيات هما شيء واحد، لأن مفهوم زيد ومصداقه نفسه، والتغاير إنّما هو في أن وجود المصداق بوجود خارجي، والمفهوم نفس المصداق لكن بوجود ذهني، وإلاّ لو لم يكن المفهوم والمصداق أمراً واحداً لما أمكن أن يحكي المفهوم عن المصداق، والاختلاف بين المفهوم والمصداق هو في طبيعة الوجود بالذهن أو بالخارج.
إذاً فمفهوم الوجود واحد، إذ لا يمكن أن ننتزع مفهوم الوجود الواحد من مصاديق متباينة من حيثُ هي متباينة، لأنه يلزم ن يكون الواحد عين الكثير والكثير عين الواحد، وذلك معناه اجتماع النقيضين وهو محال، هذا هو الدليل الأول على الدعوى الأولى.
والدليل الثاني على الدعوى الأولى، بيانه يتوقف على مقدمة وهي: لو كان هناك في الواقع الخارجي مصداقان (أ، ب) وحاولنا أن ننتزع مفهوماً واحداً من هذين المصداقين فهنا عدة فروض:
الأوّل: أنْ نأخذ في هذا المفهوم المنتزع من هذين المصداقين خصوصية المصداق، (أ) فلا ينطبق على المصداق (ب).
الثاني: أن نأخذ فيه خصوصية المصداق (ب) فقط، فلا ينطبق على المصداق (أ) لأن المصداقين متباينان بتمام الذات، وليس بينهما جهة اشتراك أصلاً.
الثالث: أن نأخذ فيه الخصوصيتين معاً، خصوصية (أ) وخصوصية (ب)، وعندها سوف لا ينطبق على (أ) ولا على (ب)، لأن المصداق (أ) ليس فيه شيء من خصوصية المصداق (ب)، وكذلك المصداق (ب) ليس فيه شيء من خصوصية المصداق (أ).
الرابع: أن ننتزع المفهوم من الخصوصية المشتركة بين المصداق (أ، ب) وهذا الفرض معقول كما ننتزع الانسان من الخصوصية المشتركة بين زيد وعمر وبكر، لكن هذا خلاف ما فرضناه، لأننا فرضنا أن المصاديق متباينة بتمام الذات، ولا توجد بينها جهة اشتراك أصلاً.
وبذلك يتبين من خلال الدليلين أن مفهوم الوجود العام المشترك المعنوي لا يمكن أن ننتزعه من مصاديق متباينة بتمام الذات من حيثُ هي متباينة بتمام الذات، إذاً لابد أن تكون هناك حقيقة واحدة مشتركة جامعة بين تمام هذه المصاديق، لتكون هي الملاك لانتزاع هذا المفهوم الواحد.
كما أن مفهوم الانسان حقيقة واحدة مشتركة بين أفراد الانسان وننتزعها من بين هذه الأفراد وإلا لو لم تكن هناك حقيقة واحدة مشتركة بين تمام المصاديق للزم أن ننتزع المفهوم من دون مناط، ولازم ذلك ـ كما قال الشهيد المطهري ـ انتزاع أي مفهوم من أي مصداق، وهذا واضح البطلان، ولذلك نقول أنه لابد أن يكون هناك شيء خارجي عيني يعود ما به الاشتراك إلى ما به الاختلاف، أي لابد أن تكون هناك حقيقة واحدة ترجع إليها تمام التمايزات بين الوجودات.
هذا تمام الكلام في الدعوى الأولى وهي إن الوجود حقيقة واحدة.
أما الدعوى الثانية، وهي أن هذه الحقيقة الواحدة مشككة، أي ليست حقيقة واحدة شخصية بل حقيقة واحدة لها مراتب متعددة، وهذه المراتب متغايرة، والدليل على ذلك هو أننا نلاحظ هذه المراتب كما نلاحظ الانسان بالقوة والانسان بالفعل، العلة والمعلول، فنحن نرى هذه المراتب الطولية للوجود، وهناك مراتب عرضية للوجود، كما نلاحظ أن وجود الماء يختلف عن وجود النار، فحيثية الاختلاف بين الوجودات تعود إلى حيثية الاتحاد بين الوجودات، أي ما به الامتياز عين ما به الاشتراك وبالعكس، وهذا هو التشكيك فللوجود مراتب طولية ومراتب عرضية، وقد أوضحنا ذلك سابقاً، ولكن لأهمية ذلك نقف وقفة بسيطة عند هذه المسألة، فهناك سلسلة طولية للموجودات، تبدأ بأدنى الموجودات وتنتهي بأعلى المراتب، كما قال العلامة والفيلسوف الاسلامي الطباطبائي، وفي السلسلة الطولية يفترض أن هناك تسلسلاً بين الموجودات وهناك عوالم مترتبة تبدأ من عالم الطبيعة ـ الذي هو أدنى العوالم ـ ثم هناك عالم أشد منه في وجوده، وعلى حد تعبير الشهيد المطهري في «شرح المنظومة» أن الرابطة بين هذه العوالم هي رابطة المحيط والمحاط، أي عالم الطبيعة يحيط به العالم الذي يليه فهو محاط والآخر مخيط، وكل عالم أعلى يحيط بالعالم الأدنى وجوداً، كما أنه يكون أقوى وجوداً. هذه هي السلسلة الطولية للعالم، وفيها كل عالم أعلى يحيط بالذي هو أسفل منه.
وهناك مراتب متكثرة أخرى هي المراتب العرضية، وهذه الكثرة تلحق الوجود من الخارج، فهي كثرة بالعرض لا بالذات، ومنشؤها الماهيات، والمراتب فيها على صعيد واحد وليست طولية، ولا علية ومعلولية، وإنما هي على مرتبة واحدة وصعيد واحد، ولذلك فالتعبير بالمراتب العرضية تعبير مسامحي، فالصحيح هي كثرة عرضية، وهذا لا يعني أنها متساوية في درجتها الوجودية، ولكن لا يوجد بينها طولية وعلية ومعلولية.
نمثل لذلك لتتضح المسألة، وإن كان المثال يقرب من جهة ويبعد من جهة كما يقال، ولكن لكي تتضح الفكرة، فهذا كما لو سلطنا النور على عدة زجاجات كل زجاجة ذات لون خاص، فالنور سوف يتلون ويتشكل طبقاً للون الزجاجة، فالنور الساقط على الزجاجة الزرقاء يكون أزرق والذي يسقط على الزجاجة الحمراء سيكون أحمر، بينما هذا النور في حقيقته أمر واحد لونه لون واحد، ولكنه تشكل وتلون تبعاً للقوابل والقوالب من الزجاج التي سقط عليها، وعلى هذا الأساس فالوجود في المراتب العرضية يتكثر تبعاً للأوعية والقوالب أي الماهيات التي يعرض عليها.
وفي الكثرة الطولية يكون ما به الاتحاد وما به الاختلاف هو حقيقة الوجود، فيكون التشكيك فيها خاصياً، أما الكثرة العرضية، فلا يكون ما به الاتحاد عين ما به الاختلاف، أي أن التشكيك يكون عامياً، لأن ما به الاختلاف في الكثرة العرضية هو الماهيات، وما به الاشتراك هو الوجود.

ـ ثلاثة براهين عامة:
أ) جعلوا من البرهنة على وجود الله معضلة كبرى، وهي في الحقيقة من أيسر البرهنات، خلافاً لما ظن بسكال وأضرابه، بل لعلها أيسرها، لدورانها على معان غاية في البساطة، كمعني الفعل والقوة، وعلى مبادئ غاية في البيان، كتقدم الفعل على القوة. فما إن نتأمل معنى الفعل حتى ندرك تقدمه على القوة. وما إن ننظر في شواهد القوة حتى ندرك بساطتها وبيانها وخضوعها لهذا المبدأ خضوعاً مطلقاً لا يحتمل أدنى تردد، بل يقودنا رأساً إلى اليقين الناصع. هذه الشواهد هي: التركيب، والتغير، والحدوث، والتناهي، أربعة وجوه: يتبين منها نقص العالم، واحتياجه إلى موجود كامل يفسره. وهذا هو الأصل في اشتغال العقل بالفحص عن وجود الله وماهيته.
ب) فالمركب تابع لأجزائه لاحق عليها، وليس التابع اللاحق مفسراً بنفسه، بل بأجزائه، وبالعلة المركبة. والمتغير لا يتغير بذاته من الوجه الذي هو فيه بالقوة، فليس للساكن أن يتحرك إلا بمحرك حاصل على قدرة التحريك بنفسه، أو متحرك بآخر، حتى نصل إلى محرك بنفسه. والحادث، أي الموجود بعد لا وجود، لا يوجد ذاته، وإلا كان سابقاً على ذاته، وهذا بيِّن البطلان في كل ما لا يوجد بنفسه. والموجود المتناهي المحدود محصور في ماهية معينة، وفي مكان وزمان معينين، وينقصه ما خلا ذلك من ماهيات وأمكنة وأزمنة، فلا يكون مبدأ أولاً مفسراً بنفسه. وغير صحيح أن فكرة اللامتناهي الكامل سابقة في عقلنا على فكرة المتناهي الناقص. ولأجل أن نعلم أن موجوداً ما هو ناقص، فلا حاجة إلى مقارنته بالكامل، بل تكفي مقارنته بموجود أقل نقصاً منه.
ج) هذا إجمال للبراهين على وجود الله، قد يقنع به المتأمل في معانيها ومبادئها برؤية بريئة من تقليد المنكرين وإغرابهم. ولكن المنكرين قد أسرفوا حقاً في الاعتراض والتخريج والإغراب، فلابدّ من استئناف النظر في تلك البراهين لزيادة جلائها، ودفع الشبهات عنها، ودحض الاعتراضات عليها، كي تخرج جلية ناصعة شارحة للصدور. ولم نشأ أن نجمع كل ما أسمي برهاناً أو دليلاً، فإن منها الضعيف الحقيق بالإبطال، وأخصر من الإبطال الإغفال، والنتيجة واحدة. بل اقتصرنا على ثلاثة براهين عامة، أي شاملة للموجود بما هو موجود أعني لجميع الموجودات، وخمسة خاصة منطبقة على طايفة معينة أو ناحية من الوجود.
ـ برهان من الحركة إلى محرك ثابت:
أ) كل موجود طبيعي فهو متحرك، إما بالنقلة من مكان إلى آخر، أو من حال إلى غيرها، أو من مقدار إلى أكثر منه، وبالعكس. فالحركة ظاهرة عامة في الطبيعة. ومبدأ البرهان أن ليس يمكن أن يكون شيء بعينه محركاً لنفسه، وإلا لزم وجوده قبل نفسه، وهذا محال، حتى الكائن الحي الذي نقول إنه متحرك من ذاته. فإنه منتظم من قوى، ومن أعضاء يحرك أحدها الآخر. فكل متحرك هو في الحقيقة متحرك من غيره. وسنبين الآن أنه لا يجوز التداعي إلى غير نهاية في سلسلة العلل المحركة، وأن لابدّ من الانتهاء إلى محرك أول غير متحرك. وليس المقصود فقط الحركة المادية الآلية، بل كل تغير أو خروج من القوة إلى الفعل، كخروج الإرادة التي هي قوة روحية، فنصل إلى محرك كلي يحرك كل موجود، مباشرة لا بالواسطة فإن العلة الأولى تفعل في كل فاعل لأنها علة كل وجود، والفعل وجود، لكن بحيث يكون لكل موجود أيضاً فعل خاص، على ما سنوضحه بعد.
ب) وليس المقصود الرجوع إلى لحظة أولى بدأت فيها علية الله، كما يتوهم كثيرون، بل الصعود في الآن الحاضر وفي كل آن إلى علة أولى، بغض النظر عن قدم العالم وحدوثه. وهذا يعني أن البرهان يعتمد بالذات على علل مقتضاه بالذات للمعلول ومرتبة فيما بينها، فهي متناهية العدد حتماً وإلا لم يوجد هذا المعلول. والفارق بين هذا الترتيب أو التسلسل بالذات وبين التسلسل الزماني أو بالعرض أنه ليس يستحيل أن يتولد إنسان من إنسان إلى غير نهاية إذا افترضنا قدم العالم، وهذا تسلسل بالعرض، بينما يمتنع التسلسل أو كان توليد إنسان متوقفاً على إنسان، وعلى العناصر الطبيعية، وعلى الشمس. وهكذا إلى ما لا يتناهى.
ج) وامتناع التسلسل في العلل يعني عدم الوصول أبداً إلى علة أولى، أو عدم وصول العلية إلى المعلول، فيظل المعلول الذي نطلب علته معلقاً بلا علة، ويبطل مبدأ العلية، وهو بديهي لا يمكن إبطاله. وليس معناه أن لكل موجود علة، كما ظن كنط، بل إن لكل معلول علة، أي لكل ما يظهر للوجود ويدل بهذا الظهور على افتقاره، وإلا لأدى مبدأ العلية إلى إنكار العلية، كما تقدم، وهذا خلف. وتتضح ضرورة الوقوف عند علة أولى إذا عكسنا السير وحاولنا التأدي من العلة إلى المعلول، فإننا نرى حينئذ استحالة هذه المحاولة أيضاً، من حيث إننا افترضنا مسافة غير متناهية بين الحدين، والمعلول مع ذلك ماثل أمامنا. فهل هناك برهان أبين من هذا؟
ـ برهان من النظام إلى منظم:
أ) يمضي هذا البرهان من النظام البادي في الأشياء وفي علاقاتها بعضها والبعض، حتى العاطلة عن المعرفة، فإنها جميعاً توجد في هيئة مخصوصة متناسقة، وتفعل دائماً أو في الأكثر على سياق مطرد، إذا لم يعقها عائق، كما يبين من تجربتنا اليومية ومن القوانين العلمية، فتصون وجودها وتصون النظام في العالم، مما يقطع بأنها لا تبلغ إلى غاياتها مصادفة، بل قصداً، والمصادفة لا تجري على نظام، ولا ترمي إلى نظام. وإذا فرضنا المستحيل وسلمنا جدلاً أنها قد تؤدي إلى النظام مرة، فليس يعقل أن تكون هي سبب تحقيق النظام في جميع الكائنات، وسبب استمراره واطرادهن ومبدأ البرهان أن الكائن الخالي عن المعرفة، لا يتجه إلى غاية ما لم يوجه إليها من عارف، وأن المتباينات لا تتسق بعضها مع بعض ما لم يطبعها طابع على الاتساق. والنتيجة أن لابدّ من موجود عارف صنع الكائنات، ورتب لكل منها هذين النوعين من النظام، واحد له في ذاته، وآخر له مع غيره.
ب) ومما تجب ملاحظته أن هذا البراهن، في حد ذاته، لا يقتضي إثبات نظام شامل في العالم أجمع، بل حتى لو أربت جملة الاضطراب على جملة النظام، وهذا محال، يبقى من المتعين الفحص على علة النظام حيثما وجد. والعلامة المميزة للمصادفة، والمفرقة بينها وبين الغائية، هي عدم الاطراد وعدم النظام، بينما النظام السائد في العالم ثابت كل الثبات، مطرد بلا تخلف على تعقده، تحكمه قوانين نتوقع معلولاتها توقعاً يقينياً: فكيف يدعي أن مثل هذا النظام المطرد ناتج مصادفة، أي من عدم النظام وعدم الاطراد؟ ومع ذلك فهذا ما يدعيه منكرو الغائية. وهم يؤيدون دعواهم بقولهم: إن جميع الذرات المركبة للأشياء قد تحققت تركيباتها مرة أو أخرى ضرورة في غضون أزمنة متطاولة. ونحن نرد بأن من الممكن جداً بل من الراجح جداً أن تكون أبسط المركبات هي التي تحققت، وهي التي تعود إلى ما لا نهاية لقلة ذراتها وسهولة اجتماعها، ولا تكون عادت المركبات المعقدة. ونسألهم، ماذا تفيد المركبات المعقدة لو عادت ملايين المرات؟ كيف نسلم بأن الحياة والفكر ينتجان عن اجتماع ذرات مادية، أي عن قوى عمياء؟ إحدى إثنتين: إما أن موجوداً عاقلاً صنع العالم المادي، أو أن العالم المادي صنع العقل والعاقل، ولا وسط بين الطرفين، ولا ريب أن الطرف الأول أكثر رجحاناً وأيسر قبولاً.
ج) وعلى ما لهذا البرهان من قوة وحظوة في كل عصر، فقد عارضه كثيرون. أهم اعتراض أن العالم متناه، فلا يقتضي سوى منظم متناه، وأن الانتقال من المنظم المتناهي إلى منظم غير متناه، غلط منطفي هو أشبه شيء بغلط دليل القديس أنسلم حيث ينتقل من الموجود الكامل المتصور في الذهن إلى موجود كامل في الحقيقة. والجواب أن هذا القول كان يصح لو أن نظام العالم ترتيب أشياء جاهزة واستخدام علاقات خارجية على ما يصنع صانع الساعة، أو أي آلة من آلاتنا: حينئذ كان يمكن أن يقال إن هذا البرهان يؤدي إلى مهندس متناهي الذات ليس غير، ولكن نظام العالم ناتج من تجهيز الأشياء أنفسها بإيجادها على نحو معين متجمد الأجزاء ثابتة التركيب باقية الخصائص، فهو صنع صانع الأشياء، مادة وصورة. ثم إن هذا الصانع: إما أن يكون وجوده بذاته، فلا يعود للاعتراض وجه، إذ يكون هو الإله اللامتناهي الذي نفحص عن وجوده، وإما ألا يكون بذاته، فيصبح هو موضوع سؤال ومطلوب برهان، حتى نصل إلى العلة الأولى اللامتناهية. وأخيراً فلا جدوى من هذا الاعتراض لأننا نصل على كل حال إلى علة أرفع منا، وإذا سلمنا بها، أي بمهندس للكون، فما الذي يمنع من التسليم بإله خالق غير متناه؟
د) وقد وجه هنري برجسون إلى هذا البرهان هجوماً لم يخطر لأحد من قبل، قال: إن النظام على نوعين، أحدهما آلي، والآخر إرادي، والنظام ضروري دائماً على إحدى هاتين الصورتين، وما يسمى عدم نظام تعبير منّا عن حالة لم نكن نتوقعها أو لا نريدها، كما إذا قلنا عن غرفة إنها غير منظمة، فمعنى هذا أننا كنا نتوقع أن نرى فيها نظاماً إرادياً، وإذا بنا أمام نظام آلي. ومن هنا نرى أن فكرة عدم النظام فكرة زائفة، وأن من العبث التساؤل عن سبب النظام فهذه مسألة يجب محوها.
هـ ) وجوابنا أن التسليم بهذين النظامين لا يمنع من تصور عدمهما جميعاً، فمن الضروري التساؤل عن سبب النظام متى وجد، لأن كل نظام فهو معلول، وليست الآلية مصدر نظام، وعلى ذلك فليس يوجد نظام آلي إلا بافتراض منظم للعلل الفاعلية، فيرجع النظام الآلي إلى الإرادي. هذا من جهة، ومن جهة أخرى أن انتظام الموجودات كل في ذاته وكلها فيما بينها، يوجدان في الوقت نفسه، فإن النظام العام يعني أن الموجودات مختارة لهذا الغرض من بين الممكنات. وأخيراً أن النظام نسبة الوسائل إلى الغاية، والنسبة أثر من آثار العقل، وعدم النظام أثر عدم العقل، والعلل الفاعلية لا تشرع في العمل إلا إذا كانت موجهة إلى غاية، لذا كانت الغاية علة العلل. فمتى وجد النظام وجدت له علة، وهي علة عاقلة أو مرتبة من عاقل.
و) ومن الطبيعي أن يخطر اعتراض آخر، فيقال: كيف يمكن أن تؤثر الغاية غير الموجودة بعد، وأن يؤثر المستقبل في الحاضر، ما ليس موجوداً فيما هو موجود؟ وجوابه أن الغاية علة حقة بما هي متصورة ومرادة، فيسبق لها وجود في فكر الفاعل، وأما بما هي مرتسمة في طبيعة الفاعل، دافعة به إلى العمل، كما نشاده في تطور الجنين، إذ تنبت أعضاء مخصصة في تتال مخصص، دون أن يكون لها شأن بحاضره، وإنما هي تهيئة لمستقبله. وجميع الطبائع الجمادية والنباتية والحيوانية فاعلة على هذا النسق، موجهة إلى بقاء الموجود وخيره بكليته. وليس يمكن أن ينتج مثل هذا الانسجام آلي، ولكن ينتج من سبق تدبير طبيعي. وقد نخطئ إذا ظننا أن غاية الخراف توفير حاجتنا من الصوف، وغاية البنجر توفير حاجتنا من السكر، والغاية من صياح الديك منعنا من الاسترسال في النوم، وأن الشمام رسمت فيه الطبيعة قطعاً كي يؤكل في الأسرة، هذه غايات ظاهرة تجيز لخصوم الغائية أن يتندروا بها وبأمثالها. ولكنا لا نخطئ إذا توخينا الغايات الباطنية، واعتقدنا أن الغاية من صوف الخراف إمدادها بالحرارة اللازمة لحياتها، وأن الطبيعة وفرت وسائل أخرى للمحرومين من الصوف.
ز) وعلى أي حال فليس احتجاج خصوم الغاية بحاسم، فقد تكون الغاية هدفاً يقصد إليه، كما ندّعي نحن، وفي الوقت نفسه نهاية أفعال طلية دون قصد كما يقولون. أجل إن الطير يطير لأن له جناحين، وإن الساعة تسجل الوقت لأن أجزاءها متناسقة، ولكن أجزاء الطير وأجزاء الساعة اتسقت للطيران ولتسجيل الوقت، لا لشيء آخر، ولولا هذا الاتساق لتعطل الطير وتعطلت الساعة حتماً. فإنكار وجود صانع صنع الساعة عن قصد وعقل غلط ليس له أدنى مسوغ. كذلك الطيران هو العلة الغائية للجناحين، وهو الملحوظ في تركيب الطير هذا التركيب المعين. وإنما يبدو القصد والعقل من النسب المتناقسة والوسائل الكفيلة بإنتاج نتائج جميلة نافعة. والعالم مصنوع تسطع فيه أعجب الأنظمة وأدق الوسائل للغايات المنشودة. فهو إذن صنع علة عاقلة. ثم إن للإنسان عقلاً، وليس هو صانع نفسه، فكيف لا يكون صانعه عاقلاً؟
ح) وقد كان خليقاً بالمتندرين أن يحذوا حذو أصحاب الغائية، ويمتحنوا شواهدها التي لا تحصى كي يروا إن كانت متفقة مع المنهج العلمي، وذلك ما فعله ابن رشد في صفحة نريد أن نثبتها هنا مثالاً للاستدلال السليم، قال: «إن الشمس لو كانت أعظم جرماً وأقرب مكاناً لهلكت أنواع النبات والحيوان من شدة الحر. وكذلك لو كانت أصغر أو أبعد لهلكت من شدة البرد. وتظهر العناية في أنه لولا فلكها المايل لما كان هنا صيف ولا شتاء ولا ربيع ولا خريف. وهذه الأزمان ضرورية في وجود أنواع النبات والحيوان. ولولا الحركة اليومية لم يكن ليل ولا نهار، وكانت تكون نصف السنة نهاراً، والنصف الأخير ليلاً، وكانت الأشياء تهلك من الحر في النهار، وفي البرد في الليل. وأما القمر فأثره بيّن في تكون الأمطار، وإنضاج الفواكه، ولو كان أعظم أو أصغر أو أبعد أو أقرب، أو لم يكن نوره مستفاداً من الشمس، لما كان هذا الفعل، وأيضاً لو لم يكن له فلك مايل، لما كان يفعل أفعالاً مختلفة في أزمان مختلفة، ولذلك تسخن به الليالي في زمن البرد، وتبرد في زمن الحر: أما سخونتها في زمن البرد فلأن وضعه منا يكون كوضع الشمس في زمن الحر، بأن يكون أقرب إلى سمت رؤوسنا إذ كانت فلكه أكثر ميلاً. وأما في زمان الحر فيكون الأمر بالعكس إذ كان أبداً، إنما يظهر في الجهة المقابلة للشمس ... وليس ينبغي أن يتوهم أن ذلك لغير العناية بما هاهنا. وعلى مثال ما قلنا في الشمس والقمر ينبغي أن يعتقد الأمر في سائر الكواكب».
برهان من الممكن الوجود إلى الواجب الوجود:
أ) الكائنات المختلفة تتكون وتفسد، تظهر وتزول، فهي قبل التكون والظهور ممكنة، قد توجد، وقد لا توجد، وليست معينة بذاتها وطبيعتها لأحد هذين الطرفين، فلا توجد إلا لأمر مرجح، بعكس الممتنع لذاته وطبيعته، فإنه لا يوجد أصلاً، كالدائرة المربعة، وبعكس الواجب لذاته وطبيعته، فإنه موجود ضرورة، كالله، فلو لم يكن هناك موجود واجب، وكانت جميع الكائنات ممكنة وقتاً ما، لما كان يوجد شيء الآن، ولن يوجد شيء أبداً. والممكنات الموجودة كثيرة جداً، وإذن يوجد موجود واجب.
ب) وليس يمكن أن يكون هذا الموجود مجموع الكائنات، فإنها متغيرة، والمجموع متغير مثلها: إنه مزاج من فعل وقوة، ومن ثمة غير موجود بذاته، والتغير في عمومه يقتضي علة منزهة عن التغير، كما بينا في برهان الحركة.
ج) ومحال التداعي إلى غير نهاية في سلسلة الممكنات، كما أثبتنا آنفاً. وحتى لو كانت هذه السلسلة أزلية، فإنها عاجزة عن توفير علة كافية للوجود موجودة بذاتها. وإذن يوجد موجود ضروري لذات ماهيته.
د) ولا نقولن مع الغزالي إن من التناقض إثبات صانع للعالم مع الاعتقاد بقدم العالم، كما فعل الفلاسفة إذ ليس الصنع متعلقاً بسبق العدم، وإنما هو لازم لإيجاد الممكن في أي زمان كان، ثم إن حفظ الله للمخلوقات يقتضي أن المخلوق مفتقر إلى الله في كل آن.
هـ ) ويدّعي كنط أن هذا البرهان مركب على غرار دليل القديس أنسلم المدعو بالدليل الأنطولوجي الذي يستنتج من فكرة الموجود الضروري فكرة وجود موجود كلي الكمال، وهذه نتيجة إذا عكسناها عادت «الموجود الكلي الكمال موجود ضروري، أي يوجد ضرورة»، ولكن برهاننا يمضي من الوجود الواقعي لموجودات ممكنة لاستنتاج وجود واقعي تقتضيه.
ـ خمسة براهين خاصة:
أ) تلك هي براهين عامة أي شاملة لكل موجود طبيعي. وهي يقينية لأول وهلة إذا خلصنا اليقين من الشوائب التي غشوه بها. تستند على يقينيات كالمشاهدات التجريبية ومبدأ العلة الفاعلية، ومبدأ العلة الغائية، بحيث تبدو أنها وفطرة العقل شيء واحد. وهنالك براهين أخرى خاصة أي مأخوذة من موجودات معينة أو وجهات معينة للموجودات، لا تقل عن تلك إحكاماً وضرورة ويقيناً. أولها من حيث العموم والشمول موضوعه تضاؤل الطاقة في الطبيعة: فقد كان المعتقد أن الطاقة ثابتة للمادة، لا تخلق ولا تندثر، وأن المادة تخلق ولا تندثر، ثم تبين أن الطاقة تنتظم من قسمين: قسم عامل يتحول إلى كيفية من الكيفيات الطبيعية كالحرارة مثلاً، أو كالحركة. وقسم ساكن عديم الأثر كأنه معدوم، وأن القسم العامل تتضاءل كميته باستمرار، فدل ذلك على أمور هامة للغاية. أمر أول أن الطاقة وبخاصة الطاقة العاملة، ليست للمادة بماهيتها، كما اعتقد كثيرون في مقدمتهم الماديون، فهي إذن آتية من علة مغايرة لها، وأن لوجود المادة نفسها علة. أمر ثان أن العالم ليس أزلياً، لأن تضاؤل الطاقة العاملة يعني أنها متناهية ذاهبة إلى النفاد، فلو كانت الطاقة أزلية لنفدت حتماً. أمر ثالث أن العالم ليس أبدياً ما دامت الطاقة متروكة لشأنها، وهي زائلة، فإذا بقي العالم كان بقاؤه بفضل علة متمايزة منه.
ب) برهان ثان مأخوذ من علم الحياة. وهو أضيق نطاقاً من البرهان السابق: مؤداه أنه يمتنع ـفسير الحياة بالعناصر المادية وحدها، فلابدّ من خالق لها، على ما هو مبين في مبحث الحياة النامية.
ح) برهان ثالث مستمد من غرائز الحيوان، وهي جزء من كيانه لا يتجزأ، وهي وكيانه عجب ما يكون من بين الغائبات تنوعاً ودقة.
د) برهان رابع أو براهين لا تحصى مستمدة من وجهات تبدو فيها استحالة تعليل أي شيء كان بدون الله. وهي براهين خُلف تعدل البراهين المستقيمة قوة ودلالة.
هـ ) برهان خامس متخذ من النفس الإنسانية وما تشعر به من اشتهاء السعادة اشتهاء ضرورياً، وتجربتها أن الخيرات الجزئية لا توفر لها إلا سعادات جزئية زائلة قد يكون جلّها زائفاً خادعاً، وعلمها بأن السعادة لا تتحقق إلا بالخير بالذات البريء من كل شائبة، وإن من المستحيل ذهاب النزوع الطبيعي عبثاً، إذ أنه يكون حينئذ بلا غاية وبلا علة. وما كان هكذا فهو متناقض معدوم، فإن للنزوع الطبيعي نسبة إلى غاية وميلاً إليها، فتحكم النفس بوجود موجدو هو الخير بالذات الذي يرضي ذلك الميل تمام الرضى. وما لمبدأ الغائية من قيمة مطلقة يعطي هذا البرهان قيمة مطلقة. وإذا اعتبر كل إنسان هذا الميل الأساسي والتزم به، اتجه إلى الفضيلة وانحلّت المشكلة الخلقية، إن توقان النفس إلى الخير والكمال، ولو مرة واحدة، لهو الدليل الأقوى على وجود الله.

ي أقسام الجوهر توجد عدة أقوال نوجزها فيما يلي:
1
ـ أن الجوهر ماهية أو معقول أولي ينقسم إلى خمسة أقسام، وهي: المادة، والصورة، والجسم، والنفس، والعقل.
2
ـ أن الماهية تنقسم إلى: جوهر وعرض، وكما أن العرض هو عرض عام ينطبق على مقولات العرض التسع، كذلك الجوهر هو عرض عام لمقولات الجوهر الخمس، أي أن الجوهر ليس ماهية من الماهيات، مثلما أن مفهوم العرض ليس ماهية من الماهيات، بمعنى كما أن مفهوم العرض معقول ثان فلسفي كذلك هو مفهوم الجوهر.
3
ـ والقول الثالث يذهب إلى التفصيل، أي أن الجوهر تندرج تحته بعض هذه الأقسام المذكورة، فيما لا يندرج بعضها الآخر تحت ماهية الجوهر، وهذا الرأي يقول: إن الجوهر ماهية من الماهيات، وهذه الماهية تندرج تحتها بعض هذه الأقسام الخمسة ولا يندرج بعضها الآخر كما أن الحيوان ماهية من الماهيات، وهذه الماهية تندرج تحتها أنواع متعددة، كالإنسان مثلاً، كذلك الجوهر ماهية تندرج تحتها بعض الأقسام.
الفيلسوف الإسلامي العلامة الطباطبائي يرى أن الجوهر معقول أولي، وهو ماهية من الماهيات، وهو أحد المقولات العشر، وهذه الماهية تنقسم انقساماً أولياً إلى: المادة، والصورة، والجسم، والنفس، والعقل. وإن كان بعض هذه الأقسام لا يندرج تحت الجوهر، كالصورة والنفس حسب رأي الطباطبائي.
والدليل على أن أقسام الجوهر هي هذه الأقسام الخمسة هو كالدليل على عدد المقولات ـ أي انحصار عدد المقولات بعشر ـ فالاستقراء العقلي أثبت وجود هذه الأقسام الخمسة ولم يُثبت غيرها من الجواهر.
ـ معنى العقل:
ما هو المقصود بالعقل؟ عندما نقول إن الجوهر ينقسم إلى: عقل، ومادة، وصورة، ونفس، وجسم؟
الجواب: للعقل معاني عديدة، منها عقل الإنسان، ولكن المقصود بالعقل هنا، كما يقول الحكماء: هو الجوهر المجرد عن المادة ذاتاً وفعلاً. ويعرِّفه الطباطبائي: بأنه جوهر لأنه موجود لا في موضوع أصلاً، وهذا الجوهر مجرد عن المادة في ذاته، كما أنه في فعله مجرد عن المادة أيضاً،ف لا يرتبط بالمادة لا ذاتاً ولا فعلاً. والقول بوجود العقل يبتني على أن الوجود له مراتب، فالمرتبة الأولى هي عالم المادة، عالم الطبيعة، والمرتبة التي تلي هذا العالم هي مرتبة عالم المِثال، أو ما يصطلح عليه بـ (عالم الملكوت)، وهو العالم المجرد عن المادة ولكن توجد فيه آثار المادة، ثم تلي هذه المرتبة في الوجود مرتبة أخرى، أو عالم آخر هو ما يُعبّر عنه بـ (عالم الجبروت)، وهو عالم العقول، وهذا العالم مجرد عن المادة، أي أن هذه العقول مجردة عن المادة في ذاتها وفي فعلها أيضاً، ومن وراء ذلك العالم الربوبي، العالم الإلهي، عالم الواجِب تعالى. وهذه العوالم ـ كما قالوا ـ كل عالم منها محيط بالآخر (والله من ورائهم محيط) وبالتالي هنا تسلسل وطولية بين هذه العوالم، فالمقصود بالعقل هو هذا، لا عقل الإنسان.
ـ معنى النفس:
النفس هي الجوهر المجرد عن المادة ذاتاً المتعلق بها فعلاً، فالنفس الإنسانية ليست مادية في ذاتها، ولكنها في فعلها ليست مجردة عن المادة، بل هي في فعلها مادية، فأنت ترى بعينك، وتأكل بيدك، وتسمع بأذنك، فالنفس تتصرف بوسائل مادية.
وهناك في علم النفس الفلسفي أكثر من نظرية عند الفلاسفة المسلمين في تفسير حقيقة النفس، أشهرها النظرية التي ترى أن النفس مخلوق موجود مجرد مادي في الفعل لا في الذات، وهي في قِبال البدن الذي هو مادي. فالإنسان عندما يُخلق يخلق ببدنه المادي ونفسه المجردة.
فيما يذهب الرأي الذي يتبناه صدر المتألهين إلى أن النفس تبدأ بداية مادية، فالإنسان عندما يخلق ابتداءً هو مخلوق مادي بحت، ثم بعد ذلك تبدأ نفسه تتجرد من المادة طبقاً لقانون الحركة الجوهرية، فتبدأ النفس بالتحرر والتجرد من المادة، حتى تتجرد تجرداً تاماً عن المادة في مراحل تكاملها، وحينئذ تكون غير مادية، لكن تبقى مادية في فعلها، ولكن بفعل الحركة الجوهرية ـ كما تقول نظرية صدر المتألهين في الحركة الجوهرية ـ ربما تتجرد النفس في مراحلها النهائية حتى عن المادة في فعلها.
ـ معنى المادة:
هي الجوهر الحامل للقوة، أي هي الجوهر الذي يحمل استعداد الأشياء وقوتها. خُذ هذا الكتاب، أو الحجر، أو النبات، أو أي شيء آخر فستلاحظ فيه حيثيتين:
الأولى: حيثية الفعلية.
الثانية: حيثية القوة.
فهذا بالفعل هو كتاب، لكن حيثية القوة والاستعداد، إن هذا الكتاب فيه استعداد ليكون رماداً بعد أن يحترق. لاحظ النطفة هي بالفعل نطفة، لكن هذه النطفة فيها حيثية واستعداد لتكون علقة.
ولا إشكال في أن حيثية الفعل هي غير حيثية القوة والاستعداد، فما يحمل القوة والاستعداد هو المادة، والعلاقة بين الإمكان الاستعدادي وبين المادة كالعلاقة بين الجسم التعليمي والجسم الطبيعي، فالجسم الطبيعي جسم مبهم غير معين، فمتى تمدد هذه الجسم (تحصل فيه الأبعاد الثلاثة) كان اسطوانياً، أو هرمياً، أو مكعباً، فالذي يُعين هذه الأبعاد هو الجسم التعليمي، إذاً الجسم التعليمي عرض يُعيِّن أبعاد الجسم الطبيعي، أي يخرج أبعاده من الإبهام إلى التحدد والتعين. وهنا الشيء نفسه يقال، فالمادة جوهر، والعلاقة بين المادة وبين الإمكان الاستعدادي الموجود فيها هي كالعلاقة بين الجسم التعليمي والطبيعي، فالجسم الطبيعي جوهر والجسم التعليمي عرض، فالاستعداد الموجود في المادة هو الذي يعين ما تؤول إليه المادة، أي المادة الموجودة في النطفة تكون علقة، وهكذا.
ـ معنى الصورة:
الصورة الجسمية، هي الجوهر المفيد لفعلية المادة من حيث الامتدادات الثلاث، الطول والعرض والعمق، فالمادة حاملة للاستعداد، والصورة هي التي تمنحها الفعلية، فالصورة تُعطي الفعلية للمادة، والصورة تمثل حيثية الفعلية للمادة، بينما المادة تمثل حيثية القوة، فالذي يُعطي للمادة حيثية الفعلية في الامتداد بالجهات الثلاث هو الصورة. وهنا نُنبِّه على نكتة وهي إن الصورة التي تفيد فعلية المادة من حيث الطول والعرض والعمق لا تفيد الفعلية مطلقاً، فالطباطبائي قيِّد ذلك قائلاً: من حيث الامتدادات الثلاث، ولم يقلْ مطلقاً، فلو أن هذه المادة أصبحت عنصراً ما، كالهيدروجين، والأوكسجين مثلاً، فإنها تحتاج إلى الصورة العنصرية، إضافة للصورة الجسمية، فالصورة الجسمية، وظيفتها أن تمنح المادة الأبعاد الثلاثة، أما الذي يجعل المادة أوكسجين أو زئبق مثلاً، فهو الصورة العنصرية لعنصر الأوكسجين أو لعنصر الزئبق، فليس الصورة الجسمية وحدها تفيد فعلية المادة من حيث العنصر الفلاني، أو الشيء المعين كالماء، بل لابدّ، بالإضافة إلى الصورة الجسمية، من الصورة العنصرية للماء مثلاً، ولهذا قال الطباطبائي بأن الصورة الجسمية هي الجوهر المفيد لفعلية المادة من حيث الامتدادات الثلاثة، لا من حيث الفعلية مطلقاً، وإلا فالمادة تحتاج إلى صورة أخرى لتكون شيئاً معيناً، فلكي تكون المادة ماءً مثلاً، تحتاج بالإضافة إلى الصورة الجسمية، إلى الصورة العنصرية أو إلى الصورة المائية.
ـ معنى الجسم:
هو الجوهر الممتد في جهاته الثلاث، هذا هو القِسم الثالث للجوهر، وهو ما يتألف من المادة الأولى والصورة الجسمية.
والتركيب هنا هو تركيب اتحادي لا تركيب انضمامي، وإلا لو كان التركيب انضمامياً فلا يوجد لدينا جوهر جديد كالجسم، الذي يكون مجموع من هذين الجوهرين، وهما الصورة والمادة، فلابدّ أن يكون التركيب اتحادياً.
ـ رأي الطباطبائي في أقسام الجوهر:
إنه يقول أن بعض هذه الأقسام الخمسة المندرج تحت الجوهر، وبعضها الآخر غير مندرج. والمندرج تحت الجوهر هو العقل والجسم والمادة، أما الصورة والنفس فلا، لِماذا؟ يقول: لأننا عندما نلاحظ الصورة والنفس، ترى أن الصورة والفصل متحدان ذاتاً مختلفان اعتباراً، كما أن الجنس والمادة متحدان ذاتاً مختلفان اعتباراً، حيث إن المادة إذا أخذت لا بشرط كانت جنساً، والجنس إذا أُخذ بشرط لا كان مادة، والشيء نفسه يقال في الفصل والصورة فهما كالمادة والجنس، فالصورة والفصل متحدان ذاتاً ومختلفان اعتباراً، وعلاقة هذا بكلامنا هو أنه لو كانت الصورة مندرجة تحت الجوهر، لكان الجوهر جنساً للصورة، وللزم من ذلك التسلسل وهو محال.
أما كيف يلزم المحال؟ نقول: لما كانت الصورة هي الفصل لا بشرط، والفصل هو الصورة بشرط لا، والفصل غير مندرج تحت جنسه، فالناطق غير مندرج تحت الحيوان، لأنه لو كان الفصل مندرجاً تحت جنسه لاحتاج إلى فصل يقوِّمه، وننقل الكلام إلى هذا الفصل، ثم ننقل الكلام إلى ذلك الثالث، وهكذا، فيتسلسل إلى ما لا نهاية، والتسلسل محال.
فالفصل غير مندرج تحت جنسه، وإذا كانت الصورة هي الفصل، لأنهما متحدان ذاتاً، مختلفان اعتباراً، فهل تندرج الصورة تحت الجوهر؟ أي هل يكون الجوهر جنساً لها؟
الجواب: إذا كانت الصورة هي الفصل، فمحال أن يندرج الفصل تحت جنسه، لأنه يلزم التسلسل وهو محال، فالصورة الجسمية ليست مندرجة تحت الجوهر، أي ليست هي جوهراً بالحمل الشائع، بمعنى أنها ليست مصداقاً للجوهر، وإن كان ينطبق عليها مفهوم الجوهر وعنوانه بالعرض، فليس لها من الجوهر إلا المفهوم، فهي جوهر بالحمل الأولي.
وكذلك الكلام يجري في النفس أيضاً، فلا يبقى مندرجاً تحت الجوهر إلا العقل والمادة والجسم، فالنفس لا تندرج تحت الجوهر، لأن الفصل الحقيقي للإنسان هو النفس الناطقة، فالنفس هي الفصل، والفصل لا يندرج تحت جنسه، فالنفس لا تندرج تحت الجوهر، وإن صدق عليها مفهوم الجوهر.
وبتعبير آخر إن الجسم يتألف من مادة وصورة، والمادة هي البدن، والصورة هي النفس، الصورة هي الفصل، فالنفس هي الفصل الحقيقي. ولهذا نقول لما كانت الصورة هي الفصل، النفس هي الفصل، والفصل لا يندرج تحت جنسه، فلا تندرج الصورة تحت الجوهر، كذلك النفس لا تندرج تحت الجوهر، للزوم التسلسل، بترتب فصول غير متناهية، وهذا محال.
وإن كان مفهوم الجوهر يصدق على الصورة والنفس، لكن ليس لهما من الجوهر إلا المفهوم، فالطباطبائي يرى أن ما يندرج تحت الجوهر هو العقل، والمادة، والجسم، فقط، أما الصورة والنفس فليس لهما من الجوهر إلا المفهوم، وهما ليسا مصداقاً للجوهر.

لقد تطور مفهوم الزمن حتى أصبح من أكثر المفاهيم المعرفية تعقيداً. ومن البدهي الإشارة إلى أن هذا المفهوم قد تم تناوله أول الأمر على يد الفلاسفة الذين لم يصلوا إلى نظرية متكاملة تكوّن أرضية صلبة لأغلب إشكالات الفلسفة ومزالقها إلا على يد الفيلسوف صدر الدين الشيرازي الذي أبدع نظريته ((أصالة الوجود)) في لحظة من اللحظات النادرة التي انفجر فيها نبع الإشراق آذناً بميلاد مرحلة جديدة للفلسفة الإسلامية سرعان ما أوصلها إلى أوج كمالها، فانصهرت فيها كل مفارقات المدارس الفلسفية من مشائين ورواقيين وعلماء الكلام.
وفي الجانب الآخر من العالم، وفي وقت متأخر قليلاً وضع إسحق نيوتن معادلاته عن كيفية دوران الأجسام في الزمان والمكان وقوانين الجاذبية الكونية مبتكر الرياضيات ((علم التفاضل والتكامل)) الضرورية لفهم وتحليل هذه الحركات التي كانت يما بعد شرارة لثورة علمية فجرت المعرفة بصورة لم تعهد في التاريخ البشري كله، ومكنت الإنسان من اختراق الفضاء والإفلات من أمشاج الجاذبية الأرضية.
ولم يكن يدور بخلد أحد من العلماء آنذاك أن قوانين نيوتن هذه قد تعجز يوماً ما عن تفسير أو التنبؤ بأية ظاهرة فيزيائية حتى برز ألبرت آينشتاين بنظريته النسبية الخاصة عام 1905 وبعدها بالنسبية العامة عام 1915 التي قدر لها أن تغير مسار علم الفيزياء على نحو جذري.
وهنا سنتناول بالشرح والتوضيح مفهوم الزمن من خلال الفلسفة بناء على أطروحة الفيلسوف صدر الدين ومن خلال النظرية النسبية لأشهر فيزيائي هذا القرن ألبرت آينشتاين.
ـ الحركة الجوهرية:
قبل الخوض في نظرية ((الحركة الجوهرية)) الفلسفية عند صدر الدين نجد من الضروري التعريف بالمفاهيم الجزئية المكونة لها. وكما هو واضح من العنوان فإن فهم الحركة الجوهرية يستلزم فهماً مسبقاً لمعنى الحركة ولمعنى الجوهر فلسفياً.
تعرف الحركة على أنها ((خروج الشيء من القوة إلى الفعل على سبيل التدرج. ويتكون هذا التعريف من ثلاثة عناصر رئيسية هي:
أ ـ الخروج من القوة.
ب ـ إلى الفعل.
ج ـ على سبيل التدرج)).
ويقصد بالقوة قابلية الشيء وإمكانيته. فإن قولنا: إن هذا الطفل طبيب بالقوة، يقصد منه أنه قابل لأن يكون طبيباً وذلك ممكن وليس بمحال. أو كقولنا: إن هذه البذرة شجرة بالقوة، ونقصد بذلك أيضاً أنها من الممكن أن تكون شجرة، أو إن لها القابلية أو الاستعداد كي تصبح شجرة.
أما معنى الفعل فهو عبارة عن وجود الشيء حقيقة. ومنه اشتقت كلمة الفعلية. ومثال ذلك قولنا: إن هذه الشمعة مشتعلة بالفعل إذا كانت مشتعلة حال كلامنا عنها.
أما معنى قولهم: ((على سبيل التدرج)) فهو أن هذا الانتقال من حال القابلية إلى حال الفعلية لا يكون دفعة واحدة وخارج إطار الزمن بل لابد أن يكون متدرجاً في حصوله درجة درحة.
وبهذا يمكننا القول: إن الخروج من حال العدم إلى حال الوجود لا يسمى حركة وإلا لزم وجود حالة ثالثة بين الوجود والعدم كما توهمه البعض. والحقيقة إن الوجود والعدم مفهومان لا يجتمعان ((يثبتان)) ولا يرتفعان ((يسلبان)) عن موضوع واحد من جهة واحدة.
ويمكننا إعادة صياغة تعريف الحركة على أنها تحقق قابلية الشيء تدريجياً. ويصدق هذا التعريف على كل أنواع الحركة كالحركة في المكان والحركة في الكيف والحركة في الكم والحركة في الجوهر الذي هو محل حديثنا.
أما معنى الجوهر، فيعرف على أنه ((الموجود لا في موضوع)) على العكس من العرض المعرف على أنه ((الموجود في موضوع)). وتوضيح معنى العرض أولاً ضروري لفهم معنى الجوهر تبعاً.
إذن فالعرض ((ماهية مستقلة بحسب نفسها، ومفهومها، لا مستقلة بحسب وجودها، إذ هو بحاجة في وجوده إلى الوجود في غيره)). ومثال ذلك: اللون الذي يمتلك معنى مستقل بذاته عقلاً، إلا أنه في الخارج لا ينفك عن الحلول في جسم ما.
أما الجوهر فهو الماهية المستقلة مفهوماً ووجوداً. وفي مثالنا السابق يكون الجوهر هو الجسم. والجسم ذو معنى مستقل ولا يحتاج في وجوده إلى الحلول في غيره إذ هو مستقل بذاته، والعرض والجوهر عنوانان عامان أحد مصاديقهما اللون والجسم تبعاً، ولهما مصاديق أخرى كثيرة.
وقد كان الرأي السائد عند الفلاسفة، قبل صدر الدين إن الحركة تقع في الأعراض دون الجواهر وأوردوا إشكالات عديدة على القائل بوجد الحركة في الجوهر. وقد كان القول بالحركة الجوهرية نتيجة مباشرة لنظرية صدر الدين الشيرازي ((أصالة الوجود)) في مقابل نظرية ((أصالة الماهية)) السابقة لها. ويمكن تلخيص معنى الحركة الجوهرية على أنها ((قابلية الجوهر واستعداده الآن لأن يكون موجوداً بالفعل فيما بعد الآن)) أو ((إن الحركة الجوهرية هي في الواقع التجدد المستمر لوجود الجوهر)). إذن لا علاقة بين الحركة الجوهرية وبين حركة الذرات والجزئيات ولأن كل هذه الحركات تحدث في أعراض المادة وليس في جوهرها.
وقد اشتهر بين الفلاسفة (قبل صدر الدين) أن ((الزمان جوهر مستقل منفصل عن المادة)) أو بتعبير آخر ((إن الزمان موجود مستقل سواء أكان هناك موجود آخر أم لا .. بحيث أنه يوجد حتى إذا لم يخلق الله سبحانه سواه من الأشياء وبحيث لما خلق الله المادة صارت جليسة للزمان، فالمادة في سكونها وثباتها والزمان في سيلانه وتصرمه كالجالس في نهر جار)).
وقد أبطلت نظرية الحركة الجوهرية هذا الرأي وفندته، فبناء على القول بها لا يصبح معنى للزمان بدون الحركة ولا للحركة بدون الزمان، فهما وجهان لعملة واحدة، وهما ينفصلان عقلاً وتحليلاً فقط، لا أنهما منفصلان فعلاً في الخارج.
وحسب هذا الرأي، فإن كثيراً من المشكلات الفلسفية التي أشكلت على الفلاسفة قبلاً قد حلت إشكالاتها. وعلى سبيل التمثيل فإن الزمان لا يصبح قديماً ولا أزلياً بل إن له بداية ونهاية، هما بداية الحركة ونهايتها من الكون.
وزبدة المخاض، إن الحركة هي الزمان والزمان هو الحركة. وبما أن الحركة لها مبتدأ ولها منتهى ولا يمكن أن يتقدم المتأخر ولا يتأخر المتقدم فيها، فالزمان ـ كذلك ـ لا يمكن لأجزائه المتقدمة أن تتأخر أو العكس. ويعبر عن الزمان بأنه ((حقيقة سيالة متدرجة الحصول)) متصرم الوجود. فهو سيال لأنه غير متوقف. وهو متدرج الحصول لأنه لا يوجد إلا جزءاً جزءاً. وهو متصرم الوجود لأن أجزاءه لا تجتمع معاً. وحدوثها يتحقق بتحقق جزء وانتفاء جزء سابق له.
ولكل جسم زمانان: زمان خاص به، وزمان عام. ويحصل الزمان الخاص بسبب حركته، أما الزمان العام (المطلق) فهو الذي يشترك فيه مع غيره من الأجسام.
ـ النظرية النسبية:
كتب إسحق نيوتن: ((إن الزمن الرياضي الحقيقي المطلق بنفسه وبطبيعته الذاتية يجري بالتساوي ودون أي علاقة بأي شيء خارجي)). ولم يكن نيوتن يعني بذلك إلا أن الزمن يسير بالتساوي في جميع أنحاء الكون. والعلماء الذين جاؤوا بعد نيوتن اعتمدوا على إمضاء هذا المفهوم، إلى أن جاء ألبرت آينشتاين وقلب الطاولة أمام مفهوم نيوتن. فقد وجد آينشتاين أن ((الزمن يتباطأ كلما زادت السرعة)).
ويمكن فهم مقولة آينشتاين بناءً على أمور بديهية في حياتنا، إذ أننا كلما زدنا السرعة لقطع مسافة ما قل الزمن اللازم لها تبعاً لذلك. غير أن هذا المعنى لا علاقة له بما يعنيه آينشتاين مطلقاً .. !
المعنى الذي يذهب إليه هو أن الساعة على كوكب الأرض (قد) تساوي عشر دقائق في مكان آخر من الكون وقد تساوي عشرين ساعة. وعلى سبيل التمثيل لو وجد حدث كوني قمنا بقياس مدته، من بدايتها حتى نهايتها، ووجدناها تساوي ساعة كاملة، فإن مدة هذا الحدث، من مكان آخر من الكون، لا تساوي بالضرورة المدة التي قسناها على كوكب الأرض، بل يمكن أن تزيد أو تنقص حسب سرعة الراصد في المكان الآخر.
ويذهب طرح النسبية إلى ما هو أغرب من ذلك، فالماضي والحاضر والمستقبل فقدت معانيها الكونية المطلقة التي كانت سائدةً. الماضي لم يعد يعني اللحظة الزمنية الفائتة وما قبلها. والمستقبل ليس اللحظة الزمنية القادمة. واللحظة التي نعيشها ـ الآن ـ ما هي إلا أننا نحن وحسب. والتعاريف التي تتبنى مثل هذا التحديد تعاريف نسبية لا تصلح كقيمة كونية مطلقة، فالماضي والحاضر والمستقبل قد يكون لها ترتيب آخر في مكان آخر من الكون.
بمعنى أنه لو وقعت ثلاثة حوادث كونية الآن ـ مثلاً ـ كانفجار ثلاثة نجوم: الأول يبعد عن الأرض بمسافة سنة ضوئية ..
والثاني بسنتين ..
والثالث بثلاث سنوات ضوئية.
فإن الراصد، على كوكب الأرض لن يشاهد انفجار النجم الأول إلا بعد مرور سنة كاملة حسب مقاييسنا نحن. كذلك لن يشاهد الانفجار الثاني إلا بعد سنتين .. ولن يشاهد الثالث إلا بعد ثلاث سنوات. وهذا يعني أن السهم الزمني ـ بالنسبة لنا على الأرض ـ سيمر بحدث النجم الأول ثم الثاني ومن ثم الثالث. لكن هذا لا ينطبق على مراقب آخر في منطقة أخرى من الكون، يبعد موقعه عن النجم الأول بمسافة ثلاث سنوات ضوئية .. وعن الثاني سنة ضوئية واحدة .. وعن الثالث سنتين ..
إن سهم الزمن لن يمر بنفس الترتيب السابق على الأرض. لأنه سيبدأ بحدث النجم الثاني ثم الثالث ومن ثم الأول. إذن فإن ((حادثاً في هذا الكون قد يكون في الماضي بالنسبة لمشاهد، وفي الحاضر بالنسبة لمشاهد آخر وفي المستقبل بالنسبة لمشاهد آخر)). وهذا يفضي إلى عدم وجود زمن مطلق (ساعة مطلقة) يشمل الكون ويستند عليه في تحديد الماضي والحاضر والمستقبل للكون كله.
إن الفرق الجوهري بين الكون الكلاسيكي وبين ما تراه النسبية هو وجود د أعلى للسرعة، النظرية النسبية تضع (سرعة الضوء) حداً أعلى للسرعة، وهذا الحد في كون النسبية لا يمكن للأجسام وصوله فضلاً عن تجاوزه. إضافة إلى ثبات سرعة الضوء بالنسبة لكل شيء، فهي الثابت الوحيد في الكون. ولم تقتصر النسبية على ما ذكر من مفاجئات بل أنها وضعت أيدي العلماء على السر الذي من خلاله يمكن للزمن أن يتباطأ بسببه ..
هذا السر هو السرعة، وباختصار شديد: إن الزمان النسبي للأجسام يتباطأ عند تسارعها قياساً بالأزمنة النسبية للأجسام الأخرى الأقل تسارعاً .. !

الدرس الثالث
الوجود و الماهية
(34)


تقدم في الدرس الثاني أن موضوع الفلسفة هو: الموجود بما هو موجود. والموجود هو الشيء الذي ثبت له الوجود، سواء كان ذلك الشيء نفس الوجود أو شيئاً آخر متصفا به، وأما الوجود فمفهومه بديهي مستغنٍ عن التعريف، وما قد يُقال في تعريفه: «أنه الثابت العين» أو «الذي يمكن أن يُخبر عنه» فهي تعاريف لفظية، (1) تُستخدم للتنبيه والإشارة إلى ما في الذهن من المفهوم البديهي وليست بتعاريف حقيقية، إذ ليست بأعرف من الوجود بل لا شيء أجلى من الوجود.

وأما الماهية فقد قيل في تعريفها بأنها: الواقعة في جواب ما هي أو ما هو؛ فإذا قلت: ما هو زيدٌ؟ وجاءك الجواب بأنه إنسان، أو قلت: ما هو الإنسان؟ وجاءك الجواب بأنه حيوان ناطق، كان الجواب على هذا السؤال بذاته ماهية الإنسان. وبعبارة أخرى: أن الماهية بيان لحقيقة الشيء وذاته التي تميزه عمّا سواه.

1. والتعريف اللفظي ليس تعريفاً حقيقياً؛ لأن المعنى الدال عليه اللفظ واضح، ولم يؤدِ اللفظ المُعرِّف من دورٍ سوى دور الإيضاح للفظ آخر استعمل في ذلك المعنى، كما لو قيل: الغضنفر ما هو؟ فيقال: أسد، فمعنى الأسد لا يحتاج السامع إلى تعريفه، بل يحتاج إلى معرفة لفظ الغضنفر الذي دل على معنى الأسد، فالتعريف اللفظي تبديل لفظ مكان آخر.
(35)


وأنت حينَ تواجه موجوداً ما كجبل أبي قبيس، فتقول: «جبل أبي قبيس موجود»، فقد أشرت بالموضوع «جبل أبي قبيس» إلى ماهيةِ الشيء الذي واجهته، كما أنك أشرت بالمحمول «موجود» إلى وجوده. وهكذا بقية الأشياء التي تواجهنا، فإن لها ماهية كما أن لها وجوداً.

وبما تقدّم يظهر أنّ الماهية تختلف عن الوجود مفهوماً، أي أنّ ما يفهم من معنى الوجود غير ما يفهم من معنى الماهية، فكل منهما يختلف عن الآخر في الذهن وأما في الخارج، أي خارج حدود الذهن فلا يوجد اختلاف، فهما متحدان في شيءٍ خارجي واحد، فنستطيع أن نشير إلى زيد الخارجي بالقول: هذا إنسان وموجود.

ولنا أن نسأل عن الشيء المتحقق في الخارج والذي سميّناه زيداً، هل هو مصداق لمفهوم الوجود أو إنه مصداق لمفهوم الماهية؟ وبعبارة أخرى: هل إن الوجود أصيل في الخارج أم الماهية؟ فلو كان لكل منهما مصداق، لكان في الخارج مصداقان اثنان لا مصداق واحد، وبما أن الواقع الخارجي لا يوجد فيه إلا مصداق واحد، فلابدّ أن يكون هذا المصداق لأحدهما دون الآخر وإن انطبقا عليه، إلا أن أحدهما واقعي أصيل والآخر اعتباري، أي أن المصداق الخارجي المتمثل بزيد، يكون لأحدهما بالذات ومصداقاً للآخر بالعرض، وبعبارة أخرى: إنه مصداق للوجود دون الماهية، وإليك مثالاً يوضح المراد:
لو كان عندك ورقة بيضاء وشرعت بتلوين مساحة منها بلون أخضر، فإن

(36)


حاصل هذا التلوين سوف يكون شكلاً معيناً ولنفرضه شكلاً مربعاً، فإنك وبعد النظر إلى ذلك سينعكس في ذهنك مفهومان: أحدهما اللون الأخضر والآخر عبارة عن الشكل المربع الذي يُعدّ حداً للّون الأخضر، فمفهوم اللون الأخضر له مصداق حقيقي وهو اللون الذي ارتسم على اللوحة، وأما مفهوم الشكل المربع فليس له مصداق حقيقي في الخارج. نعم اللون الأخضر حيث ينتهي عند حدود خاصة فلابد وأن يكون له شكل معين وقد اتخذ هنا شكلاً مربعاً، وهو ليس إلا حداً فاصلاً يفصل وجود اللون الأخضر عن اللون الأبيض للّوحة، وأما الشكل المربع فلا عينية له في الخارج؛ بمعنى إنه لا يوجد في الخارج إلا اللون الأخضر؛ لأن الحدّ نهاية الشيء التي تميّزه عن غيره ونهاية الشيء لا تمثل شيئاً، وأما الشكل فلا مصداق له يمثله، بل إنَّ الذهن قد اِنتزعه من الوجود الخارجي للّون الأخضر.

وهكذا يتضح حال الوجود والماهية، فإن الواقع الخارجي للأشياء ليس سوى مصاديق لمفهوم الوجود، إلا أنّ ذهن الإنسان يرسم لهذا الوجود حدّاً يميّزه عن غيره من المصاديق العينية الخارجية التي تشترك معه في الوجود، فالإنسان مثلاً من أجل تشخيصه عن غيره من المصاديق الخارجية التي تشترك معه في الحيوانية يوضع له مائز يميّزه عنها وذلك المائز هو كونه ناطقاً، فيقال بأنه: «حيوان ناطق» أي أن هذا الإنسان يمتاز عن غيره من الحيوانات بأن له قدرة على التفكير وإدراك الكليات.
حصيلة ما تقدم هي: إن العينية الخارجية ليس فيها سوى الوجود ولا سهم للماهية فيه سوى أنها تنطبق عليه ويُنسب إليها اعتباراً، وهو ما يعبّر عنه بأصالة

(37)


الوجود واعتبارية الماهية.
وإلى ما تقدم أشار المرحوم الملاّ هادي السبزواري (1) في منظومته الفلسفية:
إن الوجود عندنا أصيل ** دليل من خالفنا عليل

وعلى خلاف هذا الرأي، ذهب آخرون إلى أصالة الماهية واعتبارية الوجود وأُنشِدَ لهم:
إن الأصيل عندنا ماهية ** دليل من خالفنا واهية

ولا نجد لزاماً بعد توضيح الفرق بين الماهية والوجود، لذكر الأدلّة على أصالةِ الوجود واعتبارية الماهية، ومن هنا ذهب البعض إلى بداهة المسألة وعدم الحاجة إلى إقامةِ البرهان عليها. (2)

وإذا اتضح ما تقدم، يظهر بجلاء إن الذي له تحقق خارج حدود الذهن ليس إلا الوجود، وأما الماهية فلا تحقق خارجي لها في ذلك. وبعبارة أخرى: إن منشأ الآثار للإنسانِ ـ مثلاً ـ هو الوجود لا الماهية، فالإنسان حينما يأكل ويشرب ويتحرك ويفكر ... فإنما يقوم بكل ذلك بوجوده الخارجي لا بماهيتهِ.

تجدر الإشارة إلى أن الفلاسفة المشّائين ذهبوا إلى أصالة الوجود واعتبارية الماهية وفي طليعتهم «أبو علي ابن سينا» وقد تبلور رأيهم وتعزّزت أركانه بقوة في عهد الملاّ صدرا حيث أقام عليه حججه الساطعة وبراهينه القاطعة. وعلى

1. الملاّ هادي السبزواري «1212 ـ 1289 ه» وهو الشيخ هادي بن المهدي السبزواري، حكيم وفيلسوف عارف، وفقيه ورع، شاعر بالعربية والفارسية، له كتب كثيرة، عدّها البعض (29) كتاباً، منها كتابه المعروف بـ «المنظومة» الذي تناول فيه بيان الفلسفة وأدلتها وردودها بأسلوب شعري بارع وجميل.
2.
من أجل مزيد توضيح راجع الكتب المفصّلة كالبداية والنهاية للعلاّمة الطباطبائي حيث استعرض فيهما آراء الفريقين وأدلتهما وردودهما.
(38)


خلافهم ذهب الإشراقيّون إلى القول بأصالةِ الماهية واعتبارية الوجود، وكان في طليعة هؤلاء شيخ الإشراق «شهاب‏ الدين السهرَوَرْدي».

إنّ إحدى الفروق التي يمكن الوقوف عليها في مجال تمييز الماهية عن الوجود هو: أن الماهية تختلف وتتعدّد باختلاف الأشياء، فماهية الإنسان تختلف عن ماهية الشجر، وهما يختلفان عن ماهية الحجر...، بينما الوجود في كل الأشياء واحد مهما تكاثرت وتعدّدت، إلا إنه قد يختلف شدّةً وضعفاً من موجود إلى آخر، فنور الشمعة أضعف من نور المصباح ونور المصباح أضعف من نور الشمسِ وهكذا؛ فإن الوجود يبدأ بأضعف موجود وينتهي بأكمل موجود وهو الله‏ ـ جل اسمه وعلا مكانه ـ إلا أن الوجود واحد.

وبما أسلفنا يظهر أن الماهية تحدّد حقائق الأشياء وتميّز بعضها عن البعض الآخر بعد اتحادها في الوجود، فلولا الماهية لم يتحقق التحديد والتشخيص في الموجودات ولم تتضح حقائقها. ومن أجل معرفة الفارق بين الوجود والماهية تصوّرْ أن الوجود عجينة وضعناها في قوالب مختلفة، فإنها تتشخص بحسب القوالب التي صُبّت فيها، فتكون اسطوانية أو مكعبة أو مخروطية ...، فالعجينة بمثابة الوجود المتحد في الجميع، والقوالب بمثابة الماهيات المختلفة فيما بينها بحسب اختلاف مواردها ومشخصاتها.
(39)

1 ـ ما هو تعريف الوجود والموجود والماهية؟ مَثّل لكل من الماهيةِ والوجود بمثال؟ ثم بيّن لماذا اعترض البعض على تعريف الوجود والموجود؟
2 ـ وضّح ما يلي: «إن الماهية تحدّد حقائق الأشياء وتميّز بعضها عن البعض الآخر بعد اتحادها فى الوجود» واشفع توضيحك بمثال مقرّب للمطلوب.
3 ـ ما هو المقصود من أصالة الوجود واعتبارية الماهية؟ عزّز جوابك بأمثلة بيانية؟
4 ـ من هم القائلون بأصالة الوجود واعتبارية الماهية؟ ومن هم القائلون بأصالة الماهية واعتبارية الوجود؟

(40)

السابقالتالي

الفهرس-----------------------------------------




المادّي والمجرّد
إن إحدى تقسيمات الوجود هي:
الموجود المادي والموجود المجرد.
والمقصود من الموجود المجرد ما يقابل الموجود المادي ومن هنا يُسمّى الموجود المجرد بـ «غير المادي».
وتستعمل كلمة المادي في الفلسفة بمعنى الجسماني، فيكون المجرد بمعنى غير الجسماني، فلا يصدق عليه أنّه جسم ولا تُنسب إليه خصائص الأجسام، كوجود الله‏ الأقدس؛ فإنه ليس بجسم ولا يخضع لخصائص الأجسام. وعلى هذا فالوجود شامل لنوعين من الموجودات: المادية والمجردة.

المدارس المادّية والوجود المجرّد
إلا إن بعض المدارس المادية كالمدرسة الوضعية وفي طليعتها «اوغست كونت» (1) والمدرسة الماركسية وفي مقدّمتها كارل ماركس (2)، ذهبوا إلى إنكار

1. «اوغست كونت Ougust Conte» «1798 ـ 1857 م» عالم فرنسي مؤسس للمذهب الوضعي الفلسفي، كما وإنه مؤسس لعلم الاجتماع الحديث، كان يعاني من الفقر والضنك الاقتصادي، ألّف كتاب «محاضرات في الفلسفة الوضعية».
2. «
كارل ماركس Cal Max» «1818 ـ 1883 م» مفكر اقتصادي وسياسي ألماني، ولد في مدينة ترير من أسرة يهودية، اعتنق وأسرته المسيحية على المذهب البروتستانتي، اهتم بفلسفة (هيجل) ودرس التاريخ والفلسفة، فنال شهادة الدكتوراة في الفلسفة واختص بدراسته الاقتصاد. عمل محرراً لجريدة «الراين» وكتب كتاب «رأس المال». عانى في حياته من الفقر المدقع فشكل عقدة في حياته، انعكست و بصورة مفرطة على آراءه وأفكاره وكتاباته.
(51)


كل ما لا يمتّ إلى العالم المادي المحسوس بصلة ورفعوا شعار «أثبت لي شيئاً بالحس أقبله منك وإلا فلا» وتغافل هؤلاء عن أنَّ الموجودات منها ما هي مجردة غير مادية، لا يمكن التعرف عليها إلا من خلال العقل واستنتاجاته وتأملاته كوجود الله‏ تعالى، لأن الحواس الخمس قاصرة عن إدراكها والتحسس بها، ومنها ما هي مادية غير مجردة، وهي بدورها قد تعجز حواس الإنسان الخمس عن إدراك بعض مفرداتها ومواردها، لوجود مانع حال دون ذلك، أو لقصور في وسائل التجربة، فالإلكترون والأشعة تحت الحمراء أو فوق البنفسجية والجاذبية الأرضية وغيرها من المفردات أكّد عليها العلم وآمنا نحن ببعضها إيماناً قاطعاً على الرغم من أنها لم تخضع بصورة مباشرة لإحدى حواسنا الخمس، بل توصّلنا إلى وجودها من خلال آثارها الدالّة عليها بحكم العقل القاطع بأن لكل أثر مؤثراً ولكل معلول علّة.

فإذا أمكن إثبات الجاذبية من خلال سقوط الأجسام باتجاه الأرض بعد رميها إلى أعلى، وإذا أمكن إثبات وجود التيار الكهربائي من خلال توهج المصباح أو حركة المروحة، أمكن أيضاً إثبات وجود الله‏ من خلال آثار صنعه وبديع خلقه. فكما أثبتنا وجود الجاذبية والتيار الكهربائي وغيرها من الظواهر المادية بطريقة عقلية استدلالية مع أنها لم تخضع بصورة مباشرة لحواسنا، كذلك الحال بالنسبة إلى

(52)


الله‏ جَل جَلاله، إذ يجوز لنا إثبات وجوده الأقدس بطريقة عقلية استدلالية على الرغم من إنه تعالى لم يخضع بصورة مباشرة لحواسنا.
فإن رضوا لأنفسهم ذلك ولم يرضوه لنا، كان كيلهم بمكيالين! وعلى طريقة «باؤهم تجر وباؤنا لا تجر»!

الفرق بين المادي والمجرّد
إن بإمكاننا التفريق بين الموجود المادي وبين الموجود المجرد في أن الأول يمكن الإشارة إلى جهة وجوده دون الثاني، فلا جهة له حتى تصح الإشارة إليه.

كما أن الموجود المادي فيه استعداد وقوة على التغيُّر والتبدل بالامتداد والحركة من حالة إلى حالة أخرى، ولذا فإن الحركة ملازمة له، فالحبة تتحول بفعل استعدادها للتغيُّر إلى نبتة، والنبتة إلى شجرة، والشجرة تحمل ثمراً وهكذا، فإن الموجود المادي في حالة تغيُّر وحركة دائبين، بينما لا تجد هذه الحالة في الموجود المجرد على ما ذهب إليه جمهور الحكماء.

(53)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق